[رحلة موسى عليه السلام في طلب العلم]
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ففي هذه السلسلة التي كنا قد ابتدأنا فيها عن طالب العلم والتي تضمنت: طالب العلم والمنهج، وطالب العلم والحفظ، وطالب العلم والقراءة، نتكلم أيضاً في هذه الليلة إن شاء الله عن طالب العلم والرحلة.
ولا شك أن الرحلة في طلب العلم من الأمور العظيمة التي هي من أسباب تحصيل العلم، وهذه الرحلة حكمها يختلف بحسب حال الشخص والعلم الذي يريد أن يتعلمه، فإن كان علم فرضٍ لا يمكن تحصيله إلا بالرحلة، وجب عليه أن يرحل ويأثم لو لم يرحل، والله سبحانه وتعالى يقول: ((فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ)) [التوبة:١٢٢].
فطلب العلم فريضة على كل مسلم، وقد أوجب الله الخروج لتحصيل العلم الواجب تحصيله، وقد تكون الرحلة مستحبة إذا كانت للزيادة من علمٍ ليس بفرض تحصيله، وقد تكون مكروهةً إذا كان يمكن أن يكون في بلده يحصل العلم فإذا رحل تألم أهله -مثلاً- وأولاده للفراق، وقد تكون الرحلة محرمة إذا كان فيها تضييعٌ للأولاد والأهل مع عدم وجود ما يوجب عليه الذهاب أو إذا قصد بالرحلة حب الظهور والشهرة، وأن يقال عنه: رحل للقاء فلان أو فلان، ويعدد المشايخ والبلدان ونحو ذلك.
والرحلة في طلب العلم -أيها الإخوة- قديمة؛ فإننا نذكر من الأمثلة التي وردت في القرآن والسنة رحلة موسى صلى الله عليه وسلم في طلب العلم على يد الخضر عليهما السلام، كما روى خبر ذلك الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في كتاب العلم، باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر عليهما السلام، وقوله تعالى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:٦٦].
وهذا الحديث العظيم الذي ساقه البخاري رحمه الله والذي يفسر فيه النبي صلى الله عليه وسلم قصة موسى مع الخضر كما جاء في القرآن، وفي هذه القصة يقول صلى الله عليه وسلم: (بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى عبدنا الخضر) يعني عبدنا الخضر أعلم، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه، وكان يتبع أثر الحوت في البحر، فقال موسى لفتاه: ((قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً)) [الكهف:٦٤] فقص الأثر إلى مكان فقد الحوت فوجد الخضر، ثم كان من شأنهما الذي قص الله عز وجل في كتابه.
وذهب موسى لملاقاة الخضر، وطلب من الله أن ييسر له الرحلة لطلب العلم، ولذلك قال في الحديث: (فسأل موسى السبيل إليه) وأراد من الله أن يبين له الطريق لملاقاة هذا العالم وهو الخضر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في هذا الباب الذي عقده البخاري: هذا الباب معقود للترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم؛ لأن ما يغتبط به تحتمل المشقة فيه.
فالعلم شيءٌ عظيم، ولا شك أن هذا العلم العظيم الجميل الجليل تهون المشاق في سبيل تحصيله.
وكذلك في هذا الحديث من الفوائد: ركوب البحر في طلب العلم، بل في طلب الاستكثار من العلم، ومشروعية حمل الزاد في السفر -لأنه أخذ معه الحوت- ولزوم التواضع في كل حال، وخضوع الكبير لمن يتعلم منه، ولهذا حرص موسى على الالتقاء بالخضر عليه السلام، مع أن موسى أفضل من الخضر ولا شك، وموسى من أولي العزم ولا شك، ورغم ذلك لم يمنعه فضله وارتفاع رتبته على الخضر أن يسافر إليه لطلب العلم، ويتحمل المشاق لطلب علم عند الخضر ليس عند موسى، ولا شك أن هذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عن صفيه وكليمه الذي كتب له التوراة بيده أنه رحل إلى رجلٍ عالمٍ يتعلم منه، ويزداد علماً منه، {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف:٦٠] كل ذلك حرصاً منه على لقاء هذا العالم، وعلى التعلم منه؛ فلما لقي موسى الخضر سلك معه مسلك المتعلم مع معلمه، وقال له بكل أدب: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:٦٦]، أولاً: بدأه بالسلام، ثم بعد ذلك بالاستئذان على متابعته، وأنه لا يتبعه إلا بإذنه، وقال: {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:٦٦] وقال: أنا جئت لأتعلم ولم آت لأناقش وأجادل، وأظهر ما عندي، ولا جئت أمتحنك وإنما جئت أستزيد علماً، وكفى بهذا فضلاً وشرفاً للعلم، فهذا نبي الله سافر ورحل لتحصيل ثلاث مسائل من رجلٍ عالم، لما سمع أن هناك من هو أعلم منه ما هدأ له بال حتى ذهب، ولم يقر له قرار حتى سافر لمتابعة التعليم.
وهذا في حال الأنبياء رضوان الله تعالى عليهم.
أما من بعدهم فالصحابة قد ضربوا المثل أيضاً في طلب العلم؛ امتثالاً لأمره تعالى لما قال: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:١٢٢].
ولذلك جاء أنه كان ينطلق من كل حيٍ من العرب عصابة -يعني: مجموعة- فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه ويتفقهون في أمر دينهم ويقولون: ماذا تأمرنا أن نفعل؟ وماذا تأمرنا في عشائرنا؟ ويبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومهم ليقوموا فيهم بأمر الله سبحانه وتعالى.