للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

وكذلك -أيها الإخوة- يدخل الرفق دخولاً أساسياً في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نحن الآن نستعرض استعراضاً بعض الجوانب التي يدخل فيها الرفق، ولا نريد أن نفصل في جانب معين، لأن هذا الجانب يصلح أن يكون موضوعاً مستقلاً بذاته.

الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من القواعد التي وضعها علماؤنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يقول: لا بد للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عالماً فيما يأمر، عالماً فيما ينهى رفيقاً فيما يأمر، رفيقاً فيما ينهى.

بعض الناس قد يكون عندهم علم أن هذا معروف، وأن هذا منكر، لكن ليس عنده رفق في الدعوة، ليس عنده رفق في أسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك ترى نتيجة جهود هذا الرجل عشوائية ساقطة فاسدة، لا أحد يستجيب له، ولا يصغي إليه، بل إن النتيجة هي الإعراض وشذوذ الناس الذين يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ما هو السبب؟ افتقاد هذا الخلق الإسلامي العظيم، خلق الرفق في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، انظروا معي إلى هذه الحادثة التي لو سارت بشكل آخر، لو سارت الحادثة كما سارت في بدايتها، كيف ستكون النتيجة؟ روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [قام أعرابي، فبال في المسجد] جريمة عظيمة جداً أن يقوم أحدهم ويبول في المسجد، مكان العبادة وأطهر مكان، فالصحابة انبهروا لهذا التصرف، فتناوله الناس، وفي رواية للبخاري -أيضاً- فسار الناس ليقعوا فيه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوه لا تزرموه) يعني: لا تقطعوا عليه بوله، قد ينحبس البول فيتضرر الرجل، أو يهرب وتنتشر النجاسة في بقعة أوسع من المسجد، فلما قضى الأعرابي بوله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أريقوا على بوله سجلاً، -بمعنى دلواً وزناً ومعنى- فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين) رواه البخاري رحمه الله في كتاب الوضوء باب صب الماء على البول في المسجد.

لو أن الأمور سارت بالشكل الذي بدأ به الصحابة، كيف ستكون النتيجة؟ أولاً: الوحشة في نفس الأعرابي، وربما يترك الإسلام، وربما كان قادماً ليسلم، فربما يرجع بعد أن يجد هذه المعاملة، وأيضاً: انتشار البول، وقد يتضرر شخصياً.

ما دام الأمر حدث وانتهى، فلا بد من درء أعلى المفسدتين في ارتكاب أدناهما، فلذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أوقفهم، وجاءت الروايات بعد ذلك أن هذا الأعرابي قال: [اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً] لأن هذا هو التصرف الذي رآه من الرجل العظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا بد من الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بد من اللين، ولذلك قال الله تعالى لموسى وهارون عندما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:٤٤] لماذا قولاً ليناً؟ {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٤] بعث أعظم داعيتين في زمانهما إلى أسوء مخلوق في زمانه فرعون، وقال لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:٤٤] فما بالكم اليوم بإخواننا المسلمين الذين يخطئون كيف نوجههم ونرشدهم؟ إذا كان أعظم داعية أرسل إلى أسوء مخلوق، فقيل له: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:٤٤] فكيف يجب أن يكون موقفنا نحن؟ فقد يرى بعض الناس منكراً، فيثورون بعنف بلا حكمة، ولو أنهم تريثوا في الأمر وألانوا القول لكان خيراً لهم.

ومن الأمور التي يدخل فيها الرفق -أيضاً- في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أنه إذا كان النهي عن المنكر يحصل بدون عنف وغلظة وهي ضد الرفق، فلا داعي لها عندئذٍ، ومما يشهد لهذا المعنى ما رواه البخاري رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (دخل وفدٌ من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم -يعني: الموت- فـ عائشة تقول: ففهمتها - عائشة كانت فطنة وذكية- قالت: ففهمتها، وقلت: وعليك السام واللعنة، إخوان القردة والخنازير، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة! فإن الله يحب الرفق في الأمر كله، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله فقلت: يا رسول الله! أولم تسمع ما قالوا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد قلت وعليهم -يعني: سمعت ما قالوا وفهمت أيضاً- ولكن قلت: وعليكم، وبما أننا يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا، فدعاؤنا عليهم مستجاب، ودعاؤهم علينا غير مستجاب) فهم قالوا: الموت عليكم، فأنا قلت: وعليكم، فالذي يستجاب دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعاء المؤمن على هذا الرجل اليهودي أو النصراني، أو الكافر الذي يقول له: السام عليكم، فمادام -أيها الإخوة- حصل المقصود، ورد كيد اليهود في نحورهم، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وعليكم) فما دام أن الغلظة عليهم، لأننا الآن مأمورون بالغلظة على اليهود والكفار، لا نعاملهم المعاملة الحسنة، لكن هذا لا يعني -يا إخواني- أن نطلق السباب والشتائم عليهم بغير داعي، لما حصل المقصود بالدعاء عليهم بالموت، والرد عليهم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وعليكم) فلماذا قول: وعليكم السام واللعنة إخوان القردة والخنازير؟ فيقول ابن حجر رحمه الله: والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد ألا يتعود لسانها بالفحش، أو أنكر عليها الإفراط في السب.