فلما حدث حصين سعيد بن جبير بمستنده في طلب الرقية لأجل اللدغة بحديث:(لا رقية إلا من عين أو حُمة) قال سعيد رضي الله عنه -وهذا من باب المباحثة في العلم والنقاش- قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
أي: من بلغه علم فأخذ به فقد أحسن ولا يلام، أدى ما وجب عليه وعمل بما بلغه من العلم، بخلاف من يعمل بجهل ولا يعلم؛ فهذا مسيء آثم، وهذه فضيلة في علم السلف وحسن أدبهم وهديهم وتلطفهم في تبليغ العلم، وأن من عمل بما بلغه عن الله ورسوله فقد أحسن.
ولكن سعيد بن جبير الآن يريد أن يستدرك على حصين، يقول: إذا كنت قد عملت بهذا الحديث فعندنا حديث آخر قال: ولكن حدثنا ابن عباس وهو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي دعا له عليه الصلاة والسلام بقوله:(اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فكان كذلك، وتعلم التفسير وفهم الكتاب العزيز، ولم ينقل عن صحابي مثلما نقل عن ابن عباس في التفسير، ولذلك قال عمر أو ابن مسعود:[لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحد] أي: لو كان كبيراً في السن مثلنا، مثل عمر وابن مسعود، ما عشره منا أحد، أي: ما بلغ عشره في العلم، لكن ابن عباس من قدر الله أنه كان صغيراً، لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان غلاماً، ومع ذلك روى أحاديث كثيرة، ورزقه الله الفهم والعلم، وروى عن الصحابة وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء سمعها منه مباشرة، ومات -رحمه الله- في الطائف سنة ثمان وستين.
قال: ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:) عرضت علي الأمم) وهذا العرض -كما قلنا- حصل شبيه له في حادثة الإسراء والمعراج التي كانت من مكة (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط) وفي رواية: (فأجد النبي يمر معه الأمة) والأمة: العدد الكثير، والرهط: الجماعة دون العشرة، إذا كان هناك جماعة دون العشرة يطلق عليهم في اللغة العربية رهط، والأمة: الجماعة الكثيرة (فرأيت النبي ومعه الرهط -من الثلاثة إلى التسعة- والنبي ومعه الرجل والرجلان) لو كانت الواو على حقيقتها في الرجل والرجلان لصاروا ثلاثة، ولقال: ثلاثة، لكن قال: النبي ومعه الرجل والرجلان، أي: النبي ومعه رجل أو رجلان، (والنبي يمر معه النفر)، وفي رواية:(والنبي يمر معه العشرة، والنبي ليس معه أحد) هناك أنبياء ما معهم ولا شخص واحد، وفي رواية:(فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة، والنبي يمر ومعه العصابة، والنبي يمر وليس معه أحد)، الحاصل من هذه الروايات أن الأنبياء يتفاوتون في الأتباع، هناك أنبياء أتباعهم كثر جداً، أمة كاملة، وهناك أنبياء معهم رهط وعشرة وثلاثة وخمسة واثنان وواحد، ومن الأنبياء من لم يتبعهم أحد، قال:) (فنظرت فإذا سواد كثير)، وفي رواية:(إذ رفع لي سواد عظيم)، أي: بينما أنا كذلك إذ رفع لي سواد عظيم، والسواد ضد البياض، والسواد يطلق على الشخص إذا رؤي من بعيد، وقد يكون واحداً وقد يكون جماعة فيكون بلفظ الجنس، فالنبي عليه الصلاة والسلام رأى أنبياء يمرون، النبي معه واحد واثنان وثلاثة ورهط وجماعة، ورأى نبياً معه أمة وعدد كثير، سواد كثير قد ملأ الأفق، والأفق: ناحية وجهة من السماء، فظنهم النبي صلى الله عليه وسلم أمته، قال:(فقلت: يا جبريل! هؤلاء أمتي، قال: لا)، وفي رواية:(فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى في قومه)، وعند أحمد:(حتى مر علي موسى في كوكبة من بني إسرائيل، فأعجبني فقلت: من هؤلاء؟ قال: هذا أخوك موسى معه بنو إسرائيل)، والكوكبة: الجماعة من الناس إذا انضم بعضهم إلى بعض.
فعرف النبي عليه الصلاة والسلام أن هؤلاء ليسوا أصحابه ولا أتباعه (ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير.
وفي رواية: عظيم) وفي رواية: (فقيل لي: انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فرأى مثله، فإذا سواد قد ملأ الأفق، فقيل: انظر هاهنا وهاهنا في آفاق السماء، فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال)، وفي لفظ عند أحمد:(فرأيت أمتي قد ملئوا السهل والجبل، فأعجبني كثرتهم وهيئتهم، فقيل: أرضيت يا محمد؟ قلت: نعم أي ربي).
لماذا لم يعرفهم وهو قد عرفهم في مرة أخرى بآثار مثل: الغرة والتحجيل؟ قيل: إنه رآهم من بعيد، والرؤية من بعيد ليس بالضرورة أن يرى فيها الشخص ملامح تفصيلية لوجوه المرئيين.