وهذه المحاضرة -أيها الإخوة- هي إكمالٌ لمحاضرة سابقة بعنوان "بين الهداية والانتكاس" أذكر في مطلع هذه المحاضرة ببعض النقاط: الهداية التي هي نقطة الانطلاق -كما قلنا- من الله عز وجل، ولذلك نحن ندعو ربنا يومياً عدة مرات، ونحن نقول:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:٦] نطلب الهداية من الله، فإذا قال إنسانٌ: أنا مستقيم على الدين، فلماذا أطلب الهداية؟ نقول: إن طلب الهداية من قبل المهتدي فيها فوائد، فمن ذلك: تثبيته على الهداية؛ لأن الإنسان قد يهتدي، ثم ينتكس، فيسأل الله أن يثبته على الهداية.
وكذلك أن يستزيد من الهداية، فإن الهداية مراتب، الهداية مثل الإيمان والعلم، فإذا اهتدى العبد، وصار في مرتبة من مراتب الهداية، يسأل ربه المزيد من هذه الهداية، والجنة درجات فمن صار في الإيمان والعلم والتقى في المراتب العليا، صار في الجنة من أهل المراتب العليا.
قالت عائشة رضي الله عنها إنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم مرةً من مضجعه، فلمسته بيدها، فوقعت عليه وهو ساجد، وهو يقول:(رب آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) فهذه التقوى والتزكية هي الهداية من الله سبحانه وتعالى، لا أملكها أنا ولا أنت:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[القصص:٥٦] من الذي يهدي إلى الحق؟ {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}[يونس:٣٥]{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يونس:٢٥] الهداية منة من الله {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}[الحجرات:١٧].
إذا اغتر الداعية يوماً من الأيام بنفسه، فليتذكر قول الله عز وجل:{كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}[النساء:٩٤] منَّ عليكم بالهداية، فلا تحتقروا الناس، لا تستصغروا الناس، ولكن تذكر إذا رأيت عاصياً أنك كنت يوماً من الأيام مثله وربما أشد، إن هذه النظرة تسبب الرحمة والشفقة بالمدعو وهو أمرٌ مطلوبٌ لنجاح الدعوة.
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداءً لك ما اقتفينا وثبت الأقدام إن لاقينا
رواه البخاري.
هذه كلمات عامر بن الأكوع رضي الله عنه ورحمه التي أسمعها لبعض المسلمين في طريق السفر، إن الأنصار لما عاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما وجدوا في أنفسهم تجاهه عليه الصلاة والسلام، لما أعطى قريشاً والمؤلفة قلوبهم ما أعطاهم، قال لهم:(يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالةً فأغناكم الله بي؟) فإذاً هدى الله أولئك الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكان النبي عليه الصلاة والسلام سبباً عظيماً، والهداية من الله، وأعظم منة على النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء في قوله تعالى:{وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى}[الضحى:٧] بل إن أهل الجنة عندما يدخلون الجنة، يقولون؟ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}[الأعراف:٤٣].