للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عتاب موسى لهارون عليه السلام]

اختصرت القصة في سورة الأعراف، فقال الله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:١٤٩] فاعترفوا بالذنب بعدما تبين لهم {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} [الأعراف:١٥٠]، والأسف: هو أشد الغضب، قال موبخاً لهم: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} [الأعراف:١٥٠] بئسما صنعتم في عبادتكم العجل بعد أن تركتكم: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} [الأعراف:١٥٠] استعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدر من الله سبحانه وتعالى، وألقى الألواح التي أعطاه الله إياها وأنزلها في جبل الطور أعطاه الله التوراة مكتوبة في الألواح، فلما رأى موسى ما حلَّ بقومه ألقى الألواح غضباً على قومه وليس إهانة للألواح، وهذا قول الجمهور من أهل العلم {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:١٥٠] لأنه كان قد استخلفه على قومه خوفاً من أن يكون قد قصر في أمرهم ونهيهم، ولكن أخاه توسل إليه قائلاً: {قَالَ ابْنَ أُمَّ} [الأعراف:١٥٠] يا بن أم! أنا وإياك من بطن واحد: {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:٩٤] ولا تشدني شداً {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي} [الأعراف:١٥٠] أنا لست قوياً مثلك، فالقوم استضعفوني وما أعاروني اهتماماً ولا سمعوا كلامي {وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} [الأعراف:١٥٠] وصل الأمر بهم إلى مقاربة قتل هارون، وبنو إسرائيل معروفون بقتل الأنبياء، {فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ} [الأعراف:١٥٠] توبخني أمام الناس وتجرني أمامهم، {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:١٥٠] تخلفني معهم وتسوقني مساقهم، وقال له: ابن أمَّ لتكون أرأف وأنجع عنده، مع أنه شقيقه من أبيه وأمه، لكن عندما ناداه بالأمومة لأجل أن يكون هناك عاطفة -يستجر العاطفة من موسى عليه السلام- وقد ذكر ابن كثير رحمه الله هذه النقطة في كتابه العظيم البداية والنهاية وفي التفسير، قال: ترقق له بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه؛ لأن ذكر الأم هنا أرق وأبلغ -أي: في الحلول والعقل- لما تحقق موسى عليه السلام من براءة ساحة هارون، وأخبره هارون بما صنع في غيابه من مجاهدة هؤلاء القوم، قال موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف:١٥١]، ثم قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف:١٥٢ - ١٥٤] وابتدأ في السير مع بني إسرائيل من جديد، والصحيح أن الألواح لم تتكسر إنما مجرد الإلقاء، ثم جمعها موسى مرة أخرى وأخذها ليقود بني إسرائيل بمقتضاها.

وجاءت هذه القصة -أيضاً- في سورة طه بتفصيل أوسع، فقال الله سبحانه وتعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [طه:٨٠ - ٨١]، ثم إن الله سبحانه وتعالى قال لموسى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} [طه:٨٣ - ٨٦] أي: حزيناً شديد الغضب على ما صنع قومه من بعده، وخبر الله لموسى صدق أنه قد يُفتن القوم في غيابه فرجع إليهم، فقال لهم: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} [طه:٨٦] أنجاكم من عدوكم وأنعم عليكم وأكرمكم، {أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ} [طه:٨٦] في انتظار ما وعدكم الله {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [طه:٨٦] "أم" هنا بمعنى: بل، أي: بل أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} [طه:٨٦] لما وبخهم على عبادة العجل، فإنهم اعتذروا بعذر فارغ سخيف غير مقبول على الإطلاق، وهو قولهم: {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} [طه:٨٧] ملكنا، أي: قدرتنا واستطاعتنا واختيارنا، كأنهم مكرهين على ذلك ليس لهم إرادة، وأخبروه أن المسألة تورع منهم عن الذهب الذي كانوا قد أخذوه من الفرعونيين وحلي الفضة التي استعاروها منهم عند خروجهم من مصر، فقذفناها وألقيناها عنا، {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} [طه:٨٧ - ٨٨] صنعه لهم، ((فَقَالُوا} الضلال منهم: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:٨٨] فنسي، قيل: فيها ثلاثة أقوال: الأول: أن موسى نسي ربه هاهنا، وذهب يطلبه عند الجبل، والعياذ بالله.

الثاني: نسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهكم.

الثالث: أن الذي نسي هو السامري أي: ترك ما كان عليه من الإسلام ورجع إلى ما كان عليه قومه من عبادة البقر.

السامري الذي صنع لهم العجل وفتنهم به لا تزال طريقته موجودة إلى الآن، وهناك طائفة من اليهود عباد العجل يعلقون في رقابهم بقرة صغيرة، يمكن أن يراهم الشخص وهم يعلقون في رقابهم سلسلة فيها عجل أو بقرة صغيرة، وقيل: إنهم لازالوا يقولون عبارة: لا مساس، ويرددونها في ترانيمهم أو أذكارهم التي يزعمون أنهم يعودون بها، قال الله سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [طه:٨٩] هذا العجل لا يجيبهم إذا سألوه، ولا يرد عليهم إذا خاطبوه، ولا يملك لهم نفعاً ولا ضراً في دنياهم ولا في أخراهم، فحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة الكفر، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير مع أنه جائز لهم؛ لأن هذه من أموال المحاربين أخذوها منهم، وقد أثبت الله تعالى أن هارون في غيبة موسى كان حريصاً عليهم، وأنه كان مقاوماً للشرك فيهم، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} [طه:٩٠] البيان لم يحصل من موسى فقط بل حصل من قبل من هارون، فقال: هذه فتنة لكم، وإن ربكم الرحمن وليس هذا العجل، {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي} [طه:٩٠] فيما آمركم به وأنهاكم، {وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه:٩٠] ولكن هؤلاء الشرذمة أصروا على عبادة العجل، وقالوا: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} [طه:٩١] وكانوا هم الأغلبية، ثبت مع هارون أناس لكن ما استطاعوا أمام هذا الطوفان من الأشخاص الذين يريدون عبادة العجل أن يغلبوهم، بل إن الطائفة الأخرى هي التي غلبت حتى كادوا أن يقتلوا هارون عليه السلام، {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:٩١] نحن نسمع كلام موسى فقط، كلامك عندنا غير مقبول ولا نأخذ به، وسنبقى على عبادة العجل حتى نرى موسى ماذا يقول، وحاربوا هارون وكادوا أن يقتلوه.

توجه موسى عليه السلام إلى أخيه هارون بالخطاب: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:٩٢ - ٩٣] وأخذ برأس أخيه يجره إليه كما حصل وتقدم في سورة الأعراف، وشرع يلوم أخاه هارون: لماذا لم تخبرني بهذا الأمر أول ما حصل؟ لماذا لم تتبع آثاري وتأتي إلي وتخبرني بما حصل؟ {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:٩٣]؛ لأن موسى قال لأخيه: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:١٤٢] هذه وصيته لأخيه هارون قبل أن يفارقه، قال: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:١٤٢]، فلما عاتبه قال: أفعصيت أمري الذي كنت أمرتك به؟ قال: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:٩٤] كانت لحية هارون وافرة، وهذا رد على الذين يحلقون اللحى، ويقولون: حلق اللحية من سنن المرسلين، وهارون كانت لحيته وافرة، ولذلك استطاع موسى أن يأخذه منها وأن يقبض عليها {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:٩٤] وأنها أقل ما فيها أنها قبضة يمكن أن تقبض.

قال هارون مجيباً عن السبب: لماذا لم يتركهم ويلحق بموسى، ويقول: حصل كذا وكذا الحق بالقوم؟ قال هارون: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ} [طه:٩٤] إذا لحقت بك لأخبرك عما حصل، كنت أخشى أن تقول لي: {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْر