من الأشياء التي تصد عن الحق: أن الواحد يضع اعتبارات غير صحيحة يقيم بها الحق، فتجد اعتبارات وموازين غير صحيحة، مثلاً: أن يعتقد أن الحق هو الذي يكون مع الأكثرية، ويحتج بذلك، والله يقول:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[الأنعام:١١٦] ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}[يوسف:١٠٣] ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم واصفاً أهل الحق: (أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) وحكى الله عن داود عليه السلام {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}[ص:٢٤].
أو مثلاً يجعل الميزان هو القوة والضعف، فإذا رأى أهل الحق ضعفاء قال: لو كان لديهم الحق لانتصروا ظاهرياً، ولكانت لهم الغلبة والاستعلاء، ومادام أنهم ضعفاء فهم ليسوا على الحق، وهذا منطق قديم، قال به أقوام الأنبياء لأنبيائهم:{أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}[الشعراء:١١١]{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}[هود:٢٧] عندما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان، في الحديث المشهور، قال له: وسألتك أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفائهم اتبعوه وهم أتباع الرسل.
فإذاً ليست القضية أن القوة مع أهل الحق دائماً، أو أن أنصار الحق ضعفاء:{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}[الأنعام:٥٣] أو مثلاً: تجعل الثروة دليلاً على الحق، فالذي معه الأشياء المادية هو صاحب الحق {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}[سبأ:٣٤ - ٣٥].
يقول الله راداً عليهم:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً}[سبأ:٣٧]{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى}[القصص:٧٦] لكنه بغى فأهلكه الله وقد كان عنده مفاتيح الخزائن.
وأحياناً تجد الواحد لا يبين الحق؛ لأن الذي قال الباطل بينه وبينه صداقة، فعلاقته به تجعله لا يبين وقد كان الصحابة يبينون ذلك، فمن ذلك حديث أبي موسى رضي الله عنه، أنه سئل عن ابنة وبنت ابن وأخت في الميراث، فقال:[للبنت النصف، وللأخت النصف وائت ابن مسعود فسيتابعني] فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: [لقد ضللت إذاًَ وما أنا من المهتدين، لأقضين فيها بما قضى فيها النبي صلى الله عليه وسلم، للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي للأخت] فأخبر أبو موسى بقول ابن مسعود فقال: [لا تسألوني مادام هذا الحبر فيكم]، ما قال ابن مسعود: أبو موسى صحابي، وأخ لي، وصديق فلا أبين خطأه أمام الناس، وذاك يقول: وائت ابن مسعود فسوف يتابعني، يعني: صار فيها دافع آخر اذهبوا إلى ابن مسعود فسيتابعني، قال ابن مسعود:[لقد ضللت إذاً وما أنت من المهتدين] أي: كيف أقول خلاف الحق في المسألة؟