[قصر الأمل عند السلف الصالح]
أيها المسلمون: ينبغي علينا ألا نظن لحظة واحدة أننا مقيمون في هذه الدنيا، ينبغي أن يلازمنا هذا الشعور باستمرار، فإن الذي يلازمه هذا الشعور لا يقع في المعاصي، ولا يتعلق بالفاني وإنما يسارع إلى الله بالعبادة.
قال ثلاثة من العلماء لبعضهم، كل اثنين يقولان للآخر: ما أملك؟ فقال أحدهم: ما أتى علي شهر إلا ظننت أني سأموت فيه.
فقال صاحباه: إن هذا لأمل.
فقالا للآخر: ما أملك؟ قال: ما أتت علي جمعة إلا ظننت أنني سأموت فيها.
فقال له صاحباه: إن هذا لأمل.
فقالا للأخير: ما أملك؟ قال: ما أمل من نفسه بيد غيره؟ قال داود الطائي: سألت عطوان بن عمر التميمي قلت: ما قصر الأمل؟ قال: ما بين تردد النفس.
فحدث بذلك الفضيل بن عياض فبكى، وقال -يقول في معنى كلامه-: يتنفس فيخاف أن يموت قبل أن ينقطع نفسه، يأخذ الزفير يخاف أن يموت بعده فلا يرد الشهيق هذا حال الصالحين؛ لأننا فعلاً لو تأملنا في الميت يموت إما بعد أخذ النفس أو بعد رده، واحدة منهما فيحدث الموت فيها، فتأمل الآن وتفكر في نفسك أنك ستموت بعد هذا أو بعد هذا، فماذا يكون حالك وشعورك؟ قال بعض السلف: ما نمت نوماً قط فحدثت نفسي أني سأستيقظ، وإنما أوطن نفسي أني ربما لا أقوم: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:٤٢] وكان حبيب أبو محمد يوصي كل يوم بما يوصي به المحتضر عند موته من تغسيله ونحو ذلك، وكان يبكي فكلما أصبح وأمسى أوصى، فسألت امرأته عن بكائه فقال: يخاف الله إذا أمسى ألا يصبح، وإذا أصبح ألا يمسي.
وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام قال لأهله: أستودعكم الله فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم منها.
وقال بكر المزني: إن استطاع أحدكم ألا يبيت إلا وعهده -وصيته- عند رأسه مكتوب فليفعل، فإنه لا يدري لعله يبيت في أهل الدنيا فيصبح في أهل الآخرة.
وكانت امرأة متعبدة بـ مكة كلما أمست قالت لنفسها: يا نفس! الليلة ليلتك، لا ليلة لك غيرها فاجتهدت في العبادة، فإذا أصبحت قالت: يا نفس! اليوم يومك ستقبضين فيه، لعلك تؤخذين فيه، اليوم يومك لا يوم لك غيره، فاجتهدت، وهكذا سارت من اجتهاد إلى اجتهاد.
إذا أردت أن تنفعك صلاتك يا عبد الله فقل: لعلي لا أصلي غيرها، صل صلاة مودع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك عندما اجتمع بعض السلف للصلاة فقدم، كل منهم صاحبه، حتى قدموا رجلاً منهم، فقال هذا الرجل وهو يتقدم بحرج: إن صليت بكم الظهر لا أصلي بكم العصر، يصلي غيري.
فقال له بعض الحاضرين من السلف: نعوذ بالله من طول الأمل، أو تأمل أن تصلي الصلاة الأخرى؟ عندك يقين بأنك ستصلي الصلاة الأخرى؟ تشترط تقول: إن صليت بكم الظهر لا أصلي العصر؟ وهكذا -أيها الإخوة- كل يوم يمضي يذهب فيه من عمرنا جزء، فماذا قدمنا في هذه الأيام التي تمضي؟ نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذنا وإياكم من طول الأمل، وأن يجعلنا متصلين بحبله المتين، قائلين بالركن الركين، متعبين لسنة سيد المرسلين.
أيها الناس: خذوا من الصحة للمرض، ومن الحياة للموت، فإن الاعتراضات التي تعترضنا كثيرة، فربما يمرض الإنسان ولا يستطيع العمل، وربما يقع له ظرف يؤدي به إلى الأجل ويكون الخسران هو العاقبة لقلة العمل وضعفه، فأنيبوا إلى ربكم كما قال الله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:٥٤] قبل أن تتحسر النفس وتقول: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:٥٦ - ٥٨] ماذا ننتظر؟ ننتظر هرماً أو مرضاً أو فقراً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال -اعملوا قبل أن تأتي أشياء- بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة) بادروا بالأعمال فاستبقوا بها قبل أن يحين الأجل، وقبل أن يأتي ما يقطع عن العمل، والناس مغبونون في الصحة والفراغ، فعندهم الصحة لا يفكرون في المرض، وعندهم المال لا يفكرون في الفقر، عندهم الفراغ لا يفكرون في الشغل فإن الله يشغل بعض الناس بنفسه.