[موقف أسيد بن حضير مع مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة]
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار، أرسل إليهم رجلاً واحداً، سنرى الآن في طيات هذه القصة ماذا سيفعل هذا الرجل، أرسل رجلاً واحداً إلى مدينة بأكملها، ولذلك كما قال ابن القيم رحمه الله في الزاد: ومدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف.
القرآن مع رجل يعرف قيمته يفتح مدينة بأكملها، لا بد من تقدير هذا القرآن، وتقدير الرجال الأفذاذ الذين يحملون هذه الآيات، ليبلغوا الناس ما أنزل إليهم من ربهم، فنزل في بني غنم على أسعد بن زرارة فجعل يدعو الناس سراً فيفشو الإسلام ويكثر أهله، وهم في ذلك مستخفين بدعائهم، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بـ مصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل، وهم قوم سعد بن معاذ وكان رئيسهم، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة الذي أسلم مع مصعب بن عمير فكان مرافقاً له في رحلته الدعوية، فدخل به حائطاً من حوائط بني غفر على بئر يقال لها: بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلموا، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير يومئذٍ سيدا قومهما، وكانا على الشرك، سعد بن معاذ كان رجلاً مشركاً جاهلياً لا يعرف الله عز وجل، ويخوض في أوحال الجاهلية كما يخوض غيره.
كيف سيقوم هذا الرجل إلى المقام الذي اهتز له عرش الرحمن؟ وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد لـ أسيد: لا أبا لك! انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فانهرهما وانههما أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدماً.
يقول سعد بن معاذ لـ أسيد بن حضير: هذا أسعد بن زرارة ابن خالتي، وله مكانة في نفسي لا أستطيع أن آتي إليه وأنهره وأعنفه، فاذهب أنت واكفني هذه المئونة، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعد بن زرارة قال لـ مصعب: هذا سيد قومه وقد جاءك، فاصدق الله فيه.
أخلص لله وأنت تنصح هذا الرجل لأنه سيد قومه؛ فإذا هداه الله هدى به قوماً بأكملهم على يد هذا الرجل، انظروا -أيها الإخوة- كيف يتواصى الدعاة فيما بينهم، يتواصون بالإخلاص لأنه عصب الدعوة، وهو السلاح الفعال الذي يفتح الله به مغاليق القلوب، فيدخل نور الإيمان إخلاص الداعية هو سلاحه الأعظم وهو الواجب وهو يواجه الناس، وكثير من الدعاة الذين لا ينقصهم علم ولا جرأة ولا قوة في الشخصية أو جودة في أسلوب العرض يفشلون فشلاً ذريعاً، لماذا؟ لأنهم يفتقدون هذا العنصر الأساسي في دعوتهم إلى الله وهو عنصر الإخلاص، فلذلك يقول أسعد بن زرارة لـ مصعب بن عمير: هذا سيد قومه وقد جاءك، فاصدق الله فيه، قل كلمة الحق ولا تخف، قال مصعب: إن يجلس أكلمه، قال: فوقف عليهما متشتماً يشتم، فقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كان لكما بأنفسكما حاجة.
قال ابن إسحاق: فقال له مصعب: أوتجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره، قال: أنصفت، قال: ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فقال فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم من إشراقته وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قال له: تغتسل، فتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي، فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين.
ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ.
من المدهش -أيها الإخوة- أن ترى هذا الصحابي عندما دخل في الإسلام أول ما فهم كان من بدائيات وبدهيات الفهم، أن يفهم أنه لا بد أن يدعو للإسلام، ولا بد أن يشارك في الدعوة إلى الله، ولا بد أن يأتي لـ مصعب برجل آخر يفتح الله قلبه؛ حتى يهدي الله القوم على يدي هذا الرجل، رجل من المشركين يشهد شهادة الحق، ويصلي ركعتين، ثم يساهم مباشرة في الدعوة إلى الله، كيف كان الصحابة الأوائل يفهمون الدين؟ كانوا يفهمونه فهماً يختلف كثيراً عن فهم المسلمين اليوم لدين الإسلام.
كثيرٌ من المسلمين اليوم لا يفهمون من الدين إلا تلك الركيعات التي يركعونها بغير خشوع في المساجد أو في البيوت، ويخرجونها في كثير من الأحيان عن وقتها، أصبح الدين مجموعة من الرموز التي تؤدى بغير خشوع لله وخشية، فقد الدين حركيته واندفاعيته في قلوب كثير من المسلمين.
إن فقه الدعوة اليوم في خطر عظيم من تلك الانحرافات الكبيرة التي تعج بها أذهان المسلمين وقلوبهم، لا بد من إحياء فقه الدعوة في نفوس الناس؛ حتى ينطلقوا بهذا الدين إلى الناس كافة لا بد من إزالة هذا الجمود الذي سيطر على مشاعر المسلمين فجعلها متجمدة لا تتحرك ولا تحس فيها دفئاً وحرارة، لا بد أن تنطلق لتصدع بكلمة الحق مبلغة تلك القلوب الخاوية، فقد يفتح الله عليهم، فيدخل الناس في دين الله أفواجاً.