بالإضافة إلى ما خلف من التلاميذ فإنه قد خلف سيرةً معطرةً بالزهد والورع، فعزف عن المناصب والولايات، والأشياء التي تولاها تدريسية خيرية، ولم يتولَّ قضاءً، ولم يتولَّ رئاسةً، وكان عزوفاً عن السلاطين، والدخول عليهم والطلب منهم، وهذه مشابهة واضحة لسيرة الإمام أحمد رحمه الله عز وجل في زهده وعزوفه عن الدنيا.
والغالب على أكثر أصحاب أحمد العفة والزهادة والنظافة، ومن أسباب عدم انتشار مذهب الحنابلة بشكل كبير: أن كثيراً من فقهاء الحنابلة أخذوا بطريقة أحمد رحمه الله في الزهد والبعد عن الرئاسات، ولا شك أن انتشار المذهب في كثير من الأحيان يُعزى إلى تبوء مناصب ورئاسات، فإذا كان كبير القضاة شافعياً، عين القضاة الشافعية، وإذا كان له مكانة عند السلطان، رتب في المساجد أو المدارس أئمة أو علماء من مذهبه، فانتشر المذهب وحملت كتبه ونسخت، وسارت في الأمصار بأمر السلطان، لكن الكثير من الحنابلة كانوا على مذهب إمامهم رحمه الله الإمام أحمد في البعد عن الولايات والرئاسات، كانوا يسكنون في المدارس والأوقاف والأربطة، ويكتفون من الدنيا بالقليل، ولكن مع ذلك قد خلفوا علماً عظيماً والحمد لله أن الله نشر فقههم وعلمهم، ولا زالت كتبهم مراجع أساسية لدى كثير من الباحثين.
فـ ابن رجب رحمه الله بناءً على تأثره بطريقة الإمام أحمد تقتضي أن يكون صاحب عبادة كبيرة، خصوصاً أنه تخرج على يد عباد مثل: ابن القيم رحمه الله، ولذلك كان ابن رجب رحمه الله قواماً لليل، صاحب عبادة وتهجد ومرتبة في العمل والأذكار والأدعية، وأعمال القلوب، وكان يرجى له الإخلاص في أقواله وأعماله إن شاء الله.
من ورعه ما حكاه تلميذه ابن اللحام، قال: ذكر لنا مرة الشيخ -أي: ابن رجب - مسألةً فأطنب فيها، فعجبت في ذلك ومن إتقانه لها، فوقعت بعد ذلك بمحبر من أرباب المذاهب وغيرهم، فلم يتكلم فيها الكلمة الواحدة.
هو قد شرح لهم المسألة شرحاً مفصلاً مسهباً واسعاً في أحد الدروس، لما جاء ابن رجب ومعه طبعاً تلميذه ابن اللحام والتلميذ يتعلم التواضع من الشيخ، ويتعلم أشياء كثيرة، حضروا بمحضر من أرباب المذاهب، ما تكلم ابن رجب ولا بكلمة، مع أن المسألة قد طرحت هي بذاتها.
فلما قام قلت له: أليس قد كلمت فيها بذلك الكلام؟ قال: إنما أتكلم بما أرجو ثوابه، وقد خفت الكلام في هذا المجلس، أي: أن يكون لا لله، ويكون فيه رياء، أو حب لإظهار ما عندي، ولذلك صمت ولم يتكلم بكلمة واحدة، وكان يحفظ كثيراً من سير أعلام السلف، ويسير على منوالهم، وسكن المدرسة السكرية بالقصاعين في دمشق، وكان فقيراً متعففاً غنياً عن الناس رحمه الله تعالى.
لا شك أن ابن رجب رحمه الله ممن مُدحوا من قبل العلماء، فيقول ابن اللحام: سيدنا وشيخنا الإمام العالم العلامة الأوحد الحافظ شيخ الإسلام مُحل المشكلات وموضح المبهمات إلى آخر ما مدحه به، وهو مستحقٌ لذلك.