[ذكر الله تعالى وإقام الصلاة وترك ما يلهي عنها]
وانظر معي إلى مشهد مقابل في سورة النور، مماثل لتلك الآية في سورة التوبة يقول الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ} [النور:٣٦] أي: مساجد.
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:٣٦] شاء الله أن ترفع.
{وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:٣٦] اسمه عز وجل وحده لا شريك له.
{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:٣٦] أين الفاعل؟! مَن الذي يسبح؟! {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:٣٦] غُدوةً وأصيلاً، مَن الذي يسبح؟! مَن في هذه المساجد يسبح الله عز وجل؟! {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:٣٦ - ٣٧]: مَن في هذا المسجد؟! إنهم رجالٌ، ثم جاءت بقية الصفات.
قال ابن كثير رحمه الله: قوله: {رِجَالٌ} [النور:٣٧]: فيه إشعار بِهِمَمِهِم السامية، ونياتهم وعزائمهم العالية، التي بها صاروا عمَّاراً للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه.
{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:٣٦ - ٣٧] يسبحون الله في المساجد، وما هي صفاتهم الأخرى؟ قال الله: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:٣٧].
أيها الإخوة: هؤلاء هم الرجال الذين لم تلههم تجارة ولا بيع عن أي شيء؟ عن ذكر الله، وإقام الصلاة.
قال بعض السلف رحمه الله: يبيعون ويشترون -هؤلاء الرجال- يبيعون ويشترون؛ ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه، وأقبل إلى الصلاة.
ومر عمرو بن دينار رحمه الله ومعه سالم بن عبد الله، قال: [كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد، فمررنا بسوق المدينة، وقد قاموا إلى الصلاة، وخَمَّروا متاعهم، فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد] لم يجلسوا أمامها ليحرسوها، أو لينظروا فيها، أو أغلقوا الدكاكين وقعدوا على الرصيف في الطريق ينتظرون متى تنتهي الصلاة حتى يكون كل واحد منهم أول من يفتح الدكان، تركوا أمتعتهم في الشارع، وغطوها في السوق، وذهبوا إلى المسجد [فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد، فتلا هذا الآية: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:٣٧]، ثم قال: هم هؤلاء] هؤلاء الذين عنى الله بقوله في هذه الآية، هؤلاء الذين قدموا مراد الله على مراد أنفسهم، وآثروا طاعة الله على المتاع الدنيوي الزائل، آثروا الاستجابة لهذا النداء العلوي الرباني: حي على الصلاة، حي على الفلاح، على نداء الجشع والطمع الذي يثيره الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء.
أيها الإخوة: كم من الرجال اليوم يقعدون في محلاتهم ودكاكينهم، أو يدخُلون داخلها في حجر مخفية، فيقعد أحدهم في مكتبه وراء الطاولة يجيب على هذا الهاتف وهذا الرجل، ويكلِّم ويفاوض ويخفض ويرفع، ويماكس ويشاكس، ويترك نداء الله، يترك المسجد، لا يجيب داعي الله إليه، لماذا أيها الإخوة؟! هل يُسَمَّى هؤلاء رجالاً؟! كلا.
إنهم أشباه الرجال ولا رجال.