وكان صلى الله عليه وسلم متقللاً متخففاً، لا يكاد يُرى في بيته شيء، دخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم -في قصة مع نسائه مشهورة- قال: فرآه وإنه على حصير ما بينه وبينه شيء، ليس بين جلده وجسده الشريف وهذا الحصير حائل، وتحت رأسه وسادة من أدم -من جلد- حشوها ليف وإن عند رجليه قرضاً مضبوراً مجموعاً، وعند رأسه أُهباً معلقة -والإهاب: هو الجلد الذي لم يدبغ- فرأيت أثر الحصير في جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله! كسرى وقيصر فيما هما فيه -يعني: من الملك والنعيم والرياش والقصور والحرير، وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير؟ هذا متاعك من الدنيا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ -وفي رواية- ولك الآخرة) وقال لـ عمر أيضاً: (أوفي شك أنت يا بن الخطاب! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا).
ولذلك إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج، حديث صحيح.
إذا رأيت -أيها المؤمن- الدول الكافرة ومجتمعات الكفر والكفرة والفسقة والمجرمين، إذا رأيت عندهم متاع الدنيا: سيارات فارهة، وقصور مرتفعة، وثمار ناضجة، وصحة وأجساد، وإذا رأيت عندهم الرياش والنعيم، ورأيت عندهم بهجة الدنيا وزينتها وزخرفها؛ فاعلم أنما هذه طيباتهم عجلت لهم في الحياة الدنيا لأنه ليس لهم في الآخرة من نصيب.
وإذا رأيت الفسقة يتطاولون ويتفاخرون بالأموال، ويتكاثرون في الأرصدة، إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج لهذا الفاسق حتى يزداد {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً}[آل عمران:١٧٨] ولأن هذه الدنيا وضيعة عند الله لا تساوي شيئاً جعل الله في حكمته أنه لا يدوم فيها شيء، متاع زائل، أعمار منقضية، وأجساد للتراب، دول تنقرض ومجتمعات تزول، والثمار نراها تتعففن أمامنا، وهؤلاء المتفوقون في الدنيا حتى في الرياضات انظر إليهم هل يحتفظ أحدهم بقوة عنده في رياضته وتدوم له؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام:(إن حقاً على الله تعالى ألا يرفع شيئاً من أمر الدنيا إلا وضعه) فكر في هذا السر وهذه الحكمة: (إن حقاً على الله تعالى ألا يرفع شيئاً من أمر الدنيا إلا وضعه) فترى صاحب الحافظة في النهاية ينسى ويخرف، وصاحب القوة في النهاية أمره إلى ضعف:{مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً}[الروم:٥٤] وصاحب المال قد يفتقر ويزول ماله أو يموت وهو غني فلا يستفيد من ماله في قبره بشيء، وصاحب الملك يزول ملكه وهكذا، أو يموت فلا يستفيد من ملكه شيء:(إن حقاً على الله تعالى ألا يرفع شيئاً من أمر الدنيا إلا وضعه).