للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ابن عباس ومحاجته الشهيرة للخوارج]

هذا ابن عباس يناقش الخوارج: لما خرجت الحرورية على علي، جعل يأتيه الرجل، فيقول: يا أمير المؤمنين! القوم خارجون عليك، قال: دعوهم حتى يخرجوا، لما يتبين ذنبهم للناس يكون هناك مبرر واضح للقتال وسفك الدماء، قال: دعوهم حتى يخرجوا.

يقول ابن عباس: قلت: يا أمير المؤمنين! أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم، ثم لبس أحسن ثيابه، ودخل على الخوارج وهم في القيلولة، فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر، متغيرة من كثرة قيام الليل وصيام النهار، الرسول عليه الصلاة والسلام قال للصحابة: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم) والخوارج لهم عمل عظيم كثير، لكن على أساس باطل، ما فائدة العبادات إذا كانت العقيدة زائغة؟! وبعض الصوفية يمكن أن يعبد الله الساعات الطويلة جداً جداً، وهو على منهج شركي، ما هي الفائدة من قيامه بالليل وصيامه بالنهار وهو مشرك بربه؛ يصرف أنواع العبادة للولي المقبور؟! ما الفائدة؟ {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:٢٣] هؤلاء الخوارج.

فرأى ابن عباس وجوههم مسهمة من السهر، قد أثَّر السجود في جباههم، كأن أيديهم ثفنات الإبل -خشنة من كثرة السجود- عليهم قمصٌ مرحضة مغسولة، قالوا: ما جاء بك يا بن عباس؟ وما هذه الحلة عليك؟ انظر إلى ابن عباس فقد تعمد لبس الحلة، وهو زاهد في الدنيا، لكن النقاش مع الخوارج له عدة، لبس أحسن الثياب وجاء، قال: ما تعيبون مني، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أحسن ما يكون من الثياب اليمانية؟! لماذا تحرمون الطيبات؟! هذه واحدة انبخعوا فيها، ثم قرأ هذه الآية: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:٣٢].

قالوا: ما جاء بك؟ فقال: جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أعلم بالقرآن وأبلغ.

فقال بعضهم: لا تخاصموا هذا فإنه من قريش والله قال فيهم: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:٥٨] وقال بعضهم: فلنكلمنه ونسمع ما عنده.

قال ابن عباس: فكلمني منهم رجلان أو ثلاثة، قلت: ماذا نقمتم عليه؟ -تريدون الخروج على علي، ماذا نقمتم عليه؟ - قالوا: ثلاثاً، قلت: وما هن؟ قالوا: حكم الرجال في أمر الله ورضي بكلامهم والله يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:٥٧] قلت: هذه واحدة.

وهذه اسمها عملية استفراغ ما عند الخصم من الشبه، تسمع كل حجج الخصم، ثم ترد عليها واحدة واحدة، قالوا: فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم؛ قاتل وحضر موقعة الجمل، ومن قاتله من المسلمين ما سبى نساءهم ولا أخذ أموالهم غنائم، فلئن كانوا مؤمنين فلا يحل قتالهم، وإن كانوا كافرين فلقد حل قتالهم وسبيهم، قال: وماذا أيضاً؟ قالوا: ومحا عن نفسه صفة أمير المؤمنين في الكتاب الذي كتبه مع معاوية، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين، انظر منطق الخوارج الأعوج! فقال ابن عباس: أرأيتكم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما ينقض قولكم هذا أترجعون؟ قالوا: ومالنا لا نرجع؟! فقال: أما أنه حكم الرجال في أمر الله، فإن الله قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:٩٥] وقال في المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:٣٥] فقد رضي الله بالتحكيم في الخصومة الزوجية وفي جزاء الصيد، فصير الله ذلك إلى حكم الرجال، فنشدتكم الله أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وإصلاح ذات بينهم أفضل أو في حكم أرنب ثمنها ربع درهم صادها رجل محرم جاء يسأل ويقول: ما علي من الجزاء؟ قالوا: نعم.

قال: فأما قولكم قاتل فلم يسب ولم يغنم، أفتسبون أمكم عائشة؟! لأن عائشة كانت في الجيش المقابل فإن قلتم: نستبيح منها، فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمنا فقد كفرتم، فأنتم تتردون بين ضلالتين، أخرجتم من هذه؟ قالوا: بلى.

وأما قولكم: محا نفسه من إمرة المؤمنين، فإني آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو، قال: اكتب يا علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، قال: اللهم إنك تعلم أني رسولك، امح يا علي، واكتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله.

ونتيجة للنقاش والرد المفحم من ابن عباس رجع منهم أكثر من النصف وبقي بقيتهم، فخرجوا على علي رضي الله عنه فقاتلهم فقتلهم، وهكذا كان ذلك النقاش العظيم.