نختم هذا الكلام بتذكرة إلى الذين كانوا في يوم من الأيام مستقيمين على طاعة الله فانحرفوا وتلوثوا بالمعاصي فرجعوا إلى أنفسهم رجعةً تذكروا فيها جمال الماضي وحلاوة الإيمان التي سلبوها، فتشوقت أنفسهم للرجوع، إلى هؤلاء الناس الذين كانوا مستقيمين ثم فعلوا أشياء وهم يتوقون للعودة إلى الماضي وربما لا يعودون لأسباب، وهذا الموضوع بالذات قضية الانتكاس وظروفه ما هي الأسباب والعلاج وحال الناكص على عقبيه قد ذكرناها في محاضرة منفصلة بعنوان: لا ترتدوا على أدباركم.
إلى هذا الشخص نقول هذا الكلام الذي ذكره ابن القيم رحمه الله: وصاحب هذا المشهد يشهد نفسه كرجل كان في كنف أبيه يغذيه بأطيب الطعام والشراب، ويلبسه أحسن الثياب، ويربيه أحسن التربية ويعطيه النفقة وهو القيم بمصالحه كلها، فبعثه أبوه في حاجة له -الأب بعث الابن في حاجة له- فخرج عليه -على الولد- في طريقه عدو فأسره وكتفه وشد وثاقه، ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب وعامله بضد ما كان أبوه يعامله به، فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة فتهيج في قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله، ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه، فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ويريد ذبحه في نهاية المطاف إذ حانت منه التفاتة نحو ديار أبيه، فرأى أباه منه قريباً، فسعى إليه وألقى نفسه عليه وانطرح بين يديه يستغيث: يا أبتاه! يا أبتاه! يا أبتاه! انظر إلى ولدك وما هو فيه ودموعه تسيل على خديه، قد اعتقنه والتزمه، وعدوه في طلبه حتى وقف على رأسه، وهو ملتزم لوالده ممسك به، فهل تقول إن والده يسلمه مع هذه الحالة إلى عدوه مرةً أخرى ويخلي بينه وبينه؟ -تظنون هذا يا جماعة؟ - فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده ومن الوالدة بولدها؟ إذا فرَّ عبدٌ إليه وهرب من عدوه إليه.
شخص يكون ماشياً في طريق الاستقامة ويأتي الشيطان ويستحوذ عليه ويحرفه عن سبيل الله، ثم يبصر طريق الهداية مرة أخرى يريد أن يرجع، فإذا رجع إلى الله رجع صادقاً وصحيحاً، تظنون أن الله يسلمه إلى الشيطان مرة أخرى إذا كان صادقاً.
إذا فرَّ عبدٌ إليه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكياً بين يديه يقول: يا رب! يا رب ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك، مسكينك وفقيرك وسائلك ومؤملك، لا ملجأ له ولا منجى منك إلا إليك، أنت معاده وبك ملاذه:
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره
إذا خاف الواحد من أحد من البشر فإنه يهرب منه، لكن أنت إذا خفت الله تذهب إلى من؟ ترجع إليه وهو الذي خفت منه، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا وترحمنا، وأن ترزقنا التوبة النصوح، وأن تعفو عنا، وأن تتجاوز عن سيئاتنا بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.