هذه القصة من أهميتها: أنها تمثل دعوة كاملة من بدايتها إلى نهايتها، ابتداءً من مرحلة الاستضعاف، لما كان الحق لا يعرفه إلا شخص واحد فقط، وحتى نهاية القصة وهي مرحلة إيمان الناس كلهم، الذين آمنوا في آخر القصة، مروراً بالمرحلة السرية التي طلب فيها الراهب من الغلام أن يكتم خبره، ومروراً بالمرحلة العلنية وهي أن يصدع الغلام بالحق على الناس كافة.
كذلك فيها تنوع الأساليب من الفردية إلى الجماعية، وغير ذلك، فيحتاج أصحاب الدعوات لدراسة هذه القصص جيداً، هذه القصص التي تمثل واقعاً متكاملاً، هذه التجارب، فالدين الإسلامي من عظمته أنه لا يبدأ بك أيها المسلم من الصفر، يقول لك: ابدأ، لا، بل يعطيك خلاصات تجارب الأمم السابقة، يقول لك: هذه التجارب استفيد منها، عندنا أرصدة في الإسلام من ضمن الأرصدة رصيد التجربة، تجارب الأمم السابقة مجموعة في القرآن والسنة.
نبدأ من البداية عن صهيب رضي الله عنه، من هو صهيب أيها الإخوة؟ صهيب الرومي، نلاحظ في بعض الأحاديث عن بعض الصحابة أنهم يتخصصون في رواية أنواع معينة من الأحاديث، هذا التخصص نابع من الواقع الذي عاشوه، فلو عرفنا واقع صهيب الرومي، كيف كان واقعه؟ صهيب الرومي كان مسلماً مضطهداً في قريش، يعذب ويُطارد ويُشرد ويُستولى على ماله، وقصة هجرته إلى المدينة معروفة، فإذا عرفنا واقع صهيب لا نستغرب لماذا بالذات صهيب الرومي الذي روى هذا الحديث الذي فيه ابتلاء وفتن ومحن، هذه العلاقة بين الراوي والمروي، بين الصحابي والحديث الذي رواه هذا الصحابي، وإذاً علمنا أيضاً أن خباب بن الأرت رضي الله عنه روى جزءاً في هذا الحديث في صحيح البخاري لما قال:(جئنا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردة في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟) -فـ خباب كان يعذب، وكان من تعذيبه أن سيدته الكافرة كانت تطرحه على أسياخ الحديد المحماة بالنار، فلا يطفئ النار في أسياخ الحديد إلا شحم ظهر خباب الذي كان يسيل عليه، لما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منه- (ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، ويوضع المنشار في مفرق رأسه فيشق حتى يقع نصفين لا يرده ذلك عن دينه) فروى خباب رضي الله عنه مقطعاً من هذا الحديث.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(كان ملكٌ فيمن كان قبلكم) هذه القصة هل ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم التاريخ الذي حدثت فيه القصة بالضبط؟ في اليوم الفلاني، في الشهر الفلاني، في السنة الفلانية؟ هل ذكر فيها المكان في البلد الفلانية؟ لا، نلاحظ هنا أن القصة تجردت عن أي تفاصيل إضافية تشتت ذهن القارئ أو السامع، واقتصرت على أهم التفاصيل المتعلقة بالموضوع، حتى لا يتشتت ذهن القارئ، لا توجد تفاصيل، مجردة عن الزمان والمكان، الزمان الوحيد الموجود (قبلكم)، قبل الصحابة، والراجح من كلمة (راهب) أنها وقعت بعد عهد عيسى لما تفرق الناس، وحصل الضلال في شريعة عيسى، وبقي رهبان قلة على دين عيسى على دين التوحيد، وقبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.