[العلماء المعاصرون وبعض مواقفهم في التربية]
السؤال
إن التعرض حصل للعلماء الماضين، ولم يحصل شيء للعلماء المعاصرين، فهل من شيء حول هذا الموضوع؟
الجواب
سير العلماء في الغالب تكتب بعد وفاتهم، وأحياناً يُضيع العالِم طلابه، فلا يكتبون سيرته، ومن جهة أخرى في هذا الزمان العلماء قلة.
وثانياً: لا يوجد حرصٌ شديد على كتابة سيرهم، وجمع أخبارهم، ولذلك لا ترى كثيراً من الأخبار، ولكن الذي يتقصى ويستمع ويحرص أن يسمع من طلاب الشيخ ومعاصريه، ستجتمع عنده أخبار الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله المفتي السابق كانت له ثلاثة مجالس، يدرس ثلاثة مستويات، للمتقدمين درس، وللمتوسطين درس، وللمبتدئين درس، ولو لاحظ أن أحد المبتدئين جاء إلى درس المتقدمين يطرده وينهره، ليس هذا مكانك، وليس من هنا تبتدئ، وهذا يورث العجب.
وكان -أيضاً- من الذين يزعِون بالقوة، خصوصاً أن السفاهة موجودة في كثير من الناس، فكان يستعمل الشدة في دين الله مع من يستحق الشدة، وفتاواه رحمه الله فيها أشياء من هذا، وقد حصل مرةً أن بعض أهل الحسبة صادروا من شخص كتاب تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان، وفي هذا الكتاب تعرض لأئمة الدعوة، وسب لأئمة الدعوة، فالرجل هذا من عِوجه أرسل للشيخ يقول: أرجعوا لي الكتاب الذي صادرتموه أو عوضوني، وكان أخذ منه عدة نسخ، فقال الشيخ: أما نسخ الكتاب فقد جرى منا إحراقها، لما تشتمل عليه من الكذب والافتراء والبهتان بشأن أئمة الدعوة وتلاميذ إمام الدعوة رحمه الله تعالى وأحفاده وما فيها من الضلال، أما تعويضك عن قيمته فيكفيك أنك سلمت من العقوبة، هذا هو التعويض، ولولا أننا علمنا أن الذي دخلت معه غيرك لما تركناك هذا في فتاويه.
كذلك الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمة الله عليه، من المشايخ والعلماء الموحدين -نحسبهم والله حسيبهم- كان قد ترك بلده في ما يظن أنه هجرة، وجاء إلى بلد التوحيد، ولما توفي الشيخ محمد حامد الفقي رئيس جمعية أنصار السنة المحمدية؛ أرسلوا إليه يطلبونه لكي يترأس الجمعية، فذهب وألقى عندهم درساً ومحاضرة ورجع، ولم يمكث عندهم؛ لأن نيته في نفسه كانت الهجرة، هكذا كانت في ذلك الزمان.
ولذلك لم يشأ أن يضيع نيته، أو أن يخالف القصد الذي قصده، والذين كان يدرسهم في معهد القضاء يشهدون له بحسن تدريسه وتفصيله، وكان يأتي قبل الطلاب وينصرف بعدهم، وكذلك في الإفتاء يأتي أول الموظفين في دار الإفتاء ويخرج آخر الناس، وكانت طريقته في تقسيم الدرس وتسهيل المعلومات أمراً عجيباً يشهد له به تلاميذه، ويقولون: ما رأينا في التدريس مثله، وكذلك كان فيه من الرزانة وسعة الاطلاع وبُعد النظر ما تشهد به الفتاوى التي أصدرها مع سماحة المفتي محمد بن إبراهيم رحمه الله، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز نفع الله به، فقد لازمه منذ عام (١٣٧٠) للهجرة، جاء إليه في ذي الحجة في الخَرْج، فرافق الشيخ أربعاً وأربعين سنة وأشهر، وفي الإفتاء رافق الشيخ عبد العزيز تسع عشر سنة في لجنة الفتوى، ولذلك الذي يتأسف على العالِم حقيقةً هم العلماء الذين كانوا معه وعرفوه، ولم يُعرف عنه ركضٌ وراء الدنيا، وكان يصون العلم ولم يتبذل.
والشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله من علماء هذا البلد، كان علامةً لم يعرف قيمته كثير من الناس، وكان يأمر أقرانه بالصلاة وهم يلعبون وعمره عشر سنوات أو أحد عشر سنة، كان يخرج بالعصا للصبيان وهم يلعبون وهو في مثل سنهم، يخرج إليهم بالعصا إلى الصلاة، ونحن الكبار نمر بجانب الصغار ولا نقول لهم كلمة، وكتب بيده ثلاثة مصاحف، ومن جميل خطه أن الناظر فيها يظنها مطبوعة، وكان يعمل بين رمضان والحج يكسب قوت سنته ليتفرغ في بقية السنة لطلب العلم، هو موسم واحد يعمل فيه، يشتري فيه شاحنة ويبيع ما فيها وهذه نفقة السنة، وقد تولى القضاء رحمه الله تعالى، وحصل له موقف أن اتهمه سبعة أشخاص بالغش وعدم الأمانة في القضاء، فلما صارت هذه الحادثة تأثر الشيخ ورفض الاستمرار في منصبه، وأغلق باب المحكمة، وأُلح عليه في العودة إلى القضاء فلم يفعل رحمه الله تعالى، ومات هؤلاء السبعة وبقي واحد منهم جاءه يستسمح منه، ويقول: سامحني على ذلك الموقف، فلعل الشيخ أراد موعظته، فقال: بيني وبينك رب العالمين، فشل الرجل وبقي مشلولاً على كرسي إلى أن مات، وكان رحمه الله يأخذ محبرته من رماد الحطب، يجعل معها خلطة ليكتب بها، وكان في الحرم يطوف بالبيت سبعة أشواط وراء سبعة أشواط، وهكذا، ويصلي ركعتين بعد كل سبعة، لقد كان عابداً من العُباد رحمه الله تعالى.
والشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله ونفع به- كم أخذ الناس من علمه! وكم نهلوا منه! حضرت معه في مجلس له موقفاً تربوياً، جاء رجل لعله جاء من بلد فيها اضطهاد للمسلمين، فقال: أنا مسكين ومحتاج وعندي أولاد أخي أيتام أريد مساعدة أريد حاجة، فيقول الشيخ: هات من يعرفك، فقال: أنا طالب علم، وأعطوني يا شيخ، فقال الشيخ: تقول: إنك طالب علم طالب العلم يعرف أن المدعي لابد أن يأتي ببينة، هات اثنين يشهدون لك.
فقال: يا شيخ، أنا مضطهد، وقد عُذبت، وضُربت، وسُجنت وفقال الشيخ: احمد الله، لقد ابتلي من هو أفضل منك بأكثر من هذا فصبر، تريد أن تقول بأنك عُذبت كي تأخذ مالاً! فسكت، ومع ذلك ما أظن أنه انصرف إلا وقد أمر له الشيخ بشيء في النهاية.
والشيخ محمد ناصر الدين الألباني محدث هذا العصر، الذي وقف على سلم المكتبة الظاهرية الساعات الطويلة، والله أعلم بحال قدميه، لكي يقلب المخطوطات، ويقلب الكتب، ويستخرج الأشياء، وربما بحث عن الورقة الضائعة فترة طويلة من الزمن، واستفاد في البحث عن هذه الورقة فوائد عديدة جداً حضرت له مجلساً فأراد أن يبصق -أخرج منديلاً فأراد أن يبصق- فسألني، فقال: أين القبلة؟ لأنه يعتمد حديث النهي عن البصاق جهة القبلة، وأنها خطيئة ولو في خارج الصلاة، ولذلك يتحرز ويتوقى منه، وهو الآن في وضع صحي حرج للغاية، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفيه ويعافيه وسائر مرضى المسلمين.
أيها الإخوة: إن العلماء -والحمد لله- يُوجد منهم بقية، لكن أين المستفيد من سيرهم؟! أين الذاهبون إليهم؟! أين الجالسون عندهم؟! أين الآخذون منهم؟! أين السائلون عن سيرتهم؟! أين المتخلقون بأخلاقهم وآدابهم؟! نسأل الله تعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وصلى الله على نبينا محمد.