[اختيار الوسيلة المناسبة للنصيحة]
كذلك أيها الإخوة: نذكر نقاط مهمة، أرجو التركيز عليها: لا بد للناصح -أيها الإخوة- أن يختار القنوات المناسبة لإيصال نصيحته، أحياناً لا يكون من المناسب أنك تكلمه شفهياً، نعم.
تكتب كتابة حتى لو كان جارك، أو أخوك أو أبوك، أحياناً لا يكون مناسباً أن تكلمه شفوياً لأي علة من العلل، أو مثلاً إذا كلمته شفوياً يمكن أن يثور عليك أو يقاطعك ولا يجعلك تكمل الكلام، أو لا يعطيك فرصة أن تنصح، فإذا كتبت رسالة وأعطيته إياها فسيأخذ الورقة ويقرأها، فحينئذٍ تكون الكتابة أفيد من النصيحة الشفوية، وأحياناً يكون إعطاء كتاب أفيد من أنك تكتب أنت، أو تنصح بنفسك، أحياناً قد يكون من المناسب أن تعطيه شريطاً لواعظ أو خطيب أو محاضر أو فقيه أو عالم، فيأخذه فينتصح به -وسيلة غير مباشرة- وأحياناً لا يكون من المناسب مطلقاً أن يشعر هذا الرجل أن لك ضلع في الموضوع، أو أنك داخل فيه حتى بشيء بسيط؛ لأنه قد يوجد حساسية بينك وبينه، فإذا حس أنك وراء الموضوع يشق الأوراق ويرمي الكتب ويهمل كلامك وهكذا، أو أنك تخشى -من سوء الظن- أنك إذا نصحته، يقول: هذا الآن يتصيد عيوبي، هذا لأننا اختلفنا بالأمس، فيكون من المناسب أن تصل النصيحة عبر شخص آخر، تذهب لشخص فاعل خير، تقول: يا أخي! هذا فلان أريد أن أنصحه في كذا، لكن أخشى أن يسيء الظن أخشى من أشياء، ويمكن أن يسمع كلامك أحسن مني، أو عندك قدرة على التعبير وقدرة على المناقشة أكثر، فأرجو أن تنصحه بكذا وكذا، فيكون وصول النصيحة عبر شخص آخر أكثر تأثيراً وأنفع وأجدى.
وبعض الناس مع الأسف الشديد بسبب حساسيات معينة أي شيء يأتيه من شخص المهم أنه فلان بن فلان فلا يهمه الشيء الذي يقوله، وأي شيء يأتيه منه يرميه على جنب، أحياناً تصل العلاقات إلى هذه الدرجة، وإذا لم يعلم بالشخص صاحب النصيحة يكون أولى، وممكن أن تكون النصيحة موقعة باسم فاعل خير، أو ناصح، بعض الناس ليس عنده اتباع للحق أو لا يتبع الحق، عنده من الذي ينصح؟ فلان آخذ منه، وفلان لا آخذ منه، فلذلك يكون ارتباط النصيحة باسم معين عند بعض الناس وسيلة لإسقاطها وعدم أخذها، فيكون تجريده عن الاسم أو أي سمه أو صفة تدل على الناصح مناسب، ففي هذه الحالة تتبع هذه الطريقة.
كذلك لا بد أن يضع الناصح نفسه مكان المنصوح قبل أن ينصح، أحياناً الشخص يأخذ أشياء من بعض كتب علم النفس، أو بعض كتب علم التعامل التي يكتبها الغربيون، فيها حكم وأشياء طيبة، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، قبل أن تنصح ضع نفسك مكان المنصوح ضع نفسك مكان شخص يسمع الغناء متشبع به، عاش عليه فترة من الزمن، دائماً معه ليلاً ونهاراً، في سيارته وفي البيت، ضع نفسك مكان هذا الرجل، ثم تخيل أنك ألقيت الكلام الذي تريد أن تقوله، فهل يكون هذا الكلام مجدياً أم لا؟ كثير من الأحيان يزور الشخص في نفسه كلاماً -أي: يضمر في نفسه كلاماً- يقول: فلان هذا أريد أن أكلمه بالكلام الفلاني كذا وكذا، والدليل كذا وكذا إلخ، فيذهب سريعاً يهاجم فلان كذا وكذا، ولو أنه وضع نفسه مكان المنصوح لغيَّر أشياء كثيرة في النصيحة، فلذلك من القواعد الأساسية في النصيحة: ضع نفسك مكان المنصوح، قبل أن تنصحه.
كذلك أيها الإخوة: أحياناً الناصح يكون له سلطة أو مسئولية على المنصوح، فلا ينبغي هنا أن تحمله سلطته أو مسئوليته على إساءة النصيحة، كالأب الذي عنده ولد، والمدرس الذي عنده طالب، والزوج الذي عنده زوجة؛ والناس الذين عندهم مسئولية وسلطة على من تحتهم، فلا تحملنهم هذه القوة والصلاحية التي عندهم على إساءة النصيحة، الواحد أحياناً تكون عنده قوة ويكون عنده سلطة، فتراه يسيء ولا يفكر بتحسين النصيحة، ولا يفكر بالأسلوب، يقول: هذا فلان هين هذا فلان نقهره هذا اتركه عليّ أنا أكسر رأسه، أنا لماذا هذه الأشياء؟ لأنه يستخدم السلطة أو المسئولية التي لديه في الإساءة، فلا يفكر في شكل النصيحة، كيف ينبغي أن تكون، فلذلك ترى كثيراً من الأبناء يكرهون آباءهم، وكثيراً من الزوجات يكرهن أزواجهن، وكثيراً من الطلاب يكرهون مدرسيهم، لماذا؟ لأن ذاك عنده سلطة يستخدمها ويسيء في النصيحة.
على الناصح ألا ييئس من تكرار نصيحته ينصح مرة واثنتين وثلاثاً وعشراً، ويغير في الأسلوب، مرة يأتي من هذا الطريق، وأخرى يأتي من هذا الطريق، وينوع، نفس النصيحة، والقالب، والأسلوب، والكلمات، والألفاظ، فينبغي أن يكرر ولا ييئس، وإذا يئس فشل، الناصح استمر في النصيحة فهذا طريق النجاح، ومتى يئس فشل، وأحياناً يكون ما بينك وبين النجاح إلا آخر محاولة، فأحياناً يقف الناصح قبل النهاية في شيء بسيط فيضيع الجهد كله، مع أنه لو واصل قليلاً لوجد النتيجة، لكن بسبب اليأس القاتل الذي يغرس أحياناً في نفسه نتيجة الصد والابتعاد من قبل المنصوحين، فإنه في النهاية يتثبط وييئس، ولنا عبرة بنبي الله نوح عليه السلام، هذا النبي العظيم الذي ضرب القدوة العظيمة في الدعوة إلى الله تسعمائة وخمسين سنة {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:١٤] ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وما ترك وسيلة إلا ونصح بها هؤلاء الناس، مع أنه ما استجاب له إلا أربعون أو سبعون.
إذاً النتيجة قليلة ومع ذلك استمر في النصيحة حتى آخر لحظة، وهو مستمر إلى أن قال الله له: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:٣٦] هنا قال نوح: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:٢٦] ودعا عليهم؛ لأن الله أوحى إليه {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:٣٦]، لم يعد هناك أمل في الاستمرار، لن يؤمن أكثر من الذين آمنوا.
وذكرنا أن الله عز وجل لما قص قصة نوح أتى بالنصيحة بالفعل، فقال عن نوح: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف:٦٢] صيغة الفعل الدالة على تكرار الوقوع والحدوث.
ويقول ابن القيم رحمه الله في أبيات طريفة يرد بها على هؤلاء الصوفية الذين جعلوا ذكر الله طنطنة ومزامير، فقال:
وتكرار ذا النصح منا لهم لنعذر فيهم إلى ربنا
أي: حتى نقيم الحجة، وحتى نعذر أمام الله أننا قد قدمنا ما علينا.
فلما استهانوا بتنبيهنا رجعنا إلى الله في أمرنا
فعشنا على سنة المصطفى وماتوا على تنتنٍ تنتنا
لأن هذا شغل هؤلاء الناس.
كذلك من الآفات التي تعتري الناصح: أن بعض الناصحين من كثرة ممارسة النصيحة وتعوده على النصيحة تصبح عنده مناعة أنه ينصح من قبل الآخرين.
نعم يحصل هذا، فهو الداعية والناصح، وهو الذي يوجه ويعلم، وينبه ويحذر، والذي إلخ، فهذا الرجل باستمراره بهذا العمل -وهو عمل طيب ولا شك- يتكون عنده في نفسه نوع من المناعة ضد النصائح التي توجه له من الآخرين؛ لأنه يرى نفسه أنه الناصح، فكيف يأتي أحد ينصحه؟ أحد الإخوة يحكي لي قصة واقعية حصلت مع أحد أقربائه، أنه رأى شخصاً يغلظ على إنسان في النصح، فقال: يا بن الحلال! أرفق به، فقال: مالك شغل أنا كذا وكذا، فقال له: يا بن الحلال! اذكر الله، قال: أنا أذكر الله، ذاك يقول: أنا الذي أذكر الله؟!! لأنك عندما تقول لشخصٍ: الله يهديك، يقول: أنا الله الذي يهديني؟!! أنت الله يهديك وأنت الذي كذا، أو يقول: تعود أنت غصباً عنك، فهذه العبارة تنطلق منه، يعني: هو ناصح فكيف يأتي أحد ينصحه وينتقده.
إذاً ينبغي أن ينتبه خصوصاً في مسألة من المسائل وهي: أن الناصح أو الداعية يكون غالباً إلمامه أو مجال نصحه في الأشياء الشرعية غالباً، فقد يتفوق على عامة الناس في الأشياء الشرعية، لكنه في الأشياء الحياتية أو الدنيوية قد لا يكون عنده خبرة، مثلاً ليست عنده خبرة بالسيارات، ولا بالطرق ولا بالملابس، ولا بالآلات، فنتيجة لهذه النقطة التي ذكرناها آنفاً، يأتي شخص -مثلاً- ويقول للناصح أو للداعية: هذه سيارتك فيها كذا، المفروض أنك تفعل كذا، قال: اذهب، أنت لا تفهم، أو يقول له: هذا الطريق أقصر، ويقول: لا؛ لأنه يظن أنه مادام أنه ينصح في الأشياء الشرعية فالأشياء الأخرى التي عامة الناس يفهمون فيها أكثر منه لا يسمع لهم فيها، وهذه نقطة سيئة قد تؤدي إلى الغرور، صحيح أنك تفهم في أمور الدعوة وفي طرق كسب الناس، وكيف تصل إلى قلوبهم، لكن قد لا تفهم في العلوم، وقد لا تفهم أشياء في حاجات من متاع الدنيا، فإذا جاء شخص يريد أن ينصحك فتقبل نصيحته وافسح له المجال، ولا يلزم أن يكون كل إمام مسجد خبيراً بالميكرفونات أكثر من الناس الذين وراءه، ولذلك تجد بعض هؤلاء ما دام أنه إمام المسجد فهو الذي سوف يتحكم بالميكرفونات وبالصوت، وهو الذي يعلم بالأجهزة أكثر من الموجودين، وهذا غير صحيح.
ولذلك كثيراً ما يشتكي بعض الناس من هذه النوعية، يقولون: هذا فلان لم يترك شيئاً، يقول: كل شيء هو يفهمه أكثر منا، عنده علم بالحديث على عيني ورأسي، عنده علم بالفقه ما اختلفنا، عنده كذا، لكن لما آتي على قضية ليست في تخصصه فيقول: لا.
أنا رأيي كذا، فهذا من الأشياء السيئة في التربية والدعوة والنصيحة.
فنسأل الله تعالى أن يهدينا رشدنا، وأن يلهمنا الحق، وأن يجعلنا من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم المقتدين به المتأسين به.