[جهود المربين]
المسألة الخامسة عشرة، وهي الختام في هذا: جهود المربين.
إن ما ذكر في الماضي كان تربية فردية، هذه الأشياء التي أنت تفعلها لنفسك، هذه تربيتك الفردية.
من وسائل تحسين الأخلاق التربية الجماعية وجهود المربين الموجهة إلى الشخص، وهذا الكلام الآن من صعيد إلى صعيد آخر، لا شك أن تغيير الخلق يعتمد على مجهود الشخص الفردي أصلاً، ولكن هناك -أيضاً- عوامل أخرى خارجية وهي جهود المربين نحو هذا الشخص، فالمربي عليه أن يعطي كل إنسان نفسيته ما يلائمها فتهدأ.
انظر مثلاً إلى هذا الجانب التربوي، المربي صلى الله عليه وسلم ماذا فعل لكي يهدئ النفوس ويراعي الجوانب، ففي البخاري عن عمرو بن تغلب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال أو سبي فقسمه، فأعطى رجالاً وترك رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا -الذين ما أعطاهم عتبوا- فحمد الله ثم أثنى عليه ثم قال: أما بعد: فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وآكل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير منهم عمرو بن تغلب).
هذا المربي يقول كلاماً له أثر، قال: (عمرو بن تغلب فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم) فأعطى الجزعين مالاً أصلح به نفوسهم، وأعطى عمرو بن تغلب ثناءً كان أحب إليه من عطاء المال الكثير، فأصلح نفسه.
نفس الموقف حصل بعد حنين، مسلمة الفتح، الناس الذين أسلموا يعطيهم النبي صلى الله عليه وسلم مائة، مائة من الإبل، يتألف قلوبهم، ويزيل الحواجز والعداوات بالإعطاء، والأنصار الذين جاهدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وخرجوا من المدينة وتعبوا ما أعطاهم شيئاً، فتكلم بعضهم، وقالوا: يعطي قريشاً ولا زالت سيوفنا تقطر من دمائهم، أي: يعطي هؤلاء من غنائم حنين مائة، مائة من الإبل ونحن ما لنا شيء، فلما سمع عليه الصلاة والسلام ذلك، بلغته المقولة فجمعهم: فسأل: ماذا حصل؟ وماذا قيل؟ فقال فقهاؤهم: يا رسول الله أما أولو العلم فينا ما قالوا شيئاً، وأما بعض أحداثنا -صغار السن- فقد قالوا هذه الكلمة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم كلمته المؤثرة جداً لدرجة أنهم قد بكوا حتى اخضلوا لحاهم، (ألا ترضون أن يذهب الناس بالشياء والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟ ثم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر للأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار).
هذه كلمات لكن الأنصار طابت أنفسهم، وقالوا: بلى رضينا، أي: رضينا بهذا القسم العظيم بأن يذهب الناس بالشياء والبعير ونحن نرجع بأكبر غنيمة وأعظم شيء معنا في الدنيا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، نرجع به، رضينا برسول الله حظاً وقسماً ونصيباً.
أيضاً من وسائلهم: استغلال الحوادث، فلو رأيت -مثلاً- أمامك ظلماً، يمكن أن تربي ولدك أو صديقك أو متبوعك بهذه الحادثة، فتقول: انظر إلى الظلم ماذا جر من العواقب الوخيمة، هذا الشخص الذي يتربى معك يكره الظلم، لأنك استغللت الحادثة في تفهيمه أن هذا الظلم عاقبته وخيمة، أو رذيلة من الرذائل أو فضيحة من الفضائح.
وإذا رأيت مشهداً جيداً، رأيت مشهداً فيه عدل، فلفت نظر من معك إلى هذا المشهد، فاستغليت الحدث والتعليق عليه، ومشاهد الشجاعة أو الجبن.
كذلك من وسائل المربين: ضرب الأمثال، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربي الناس على الكرم وعدم البخل، والإنفاق وعدم التقتير، وعدم المنع والشح، يقول -مثلاً-: يضرب لهم أمثلة، يقول: المنفق عليه درع وكلما أنفق ازداد حتى صار سابغاً لجميع أعضاء جسمه، ومثل البخيل عليه درع، كلما بخل ازدادت الحلقات حبساً على أجزاء جسده، فضرب المثل هذا من عمل المربين، ومن عملهم -أيضاً- ضرب المثل بأصحاب الأخلاق الفاضلة، أما ترى إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (أرأف أمتي بأمتي أبو بكر -مثلاً- وأصدقهم حياءً عثمان) فقد لفت نظرنا واستخدم شخصيات تميزت بأخلاق معينة حتى يحمسنا نحن الأمة الذين نتربى على أحاديثه بأن نكون عندنا رأفة، ويكون عندنا حياء، بأن نقتدي بـ أبي بكر في رأفته وبـ عثمان في حيائه.
وكان يقول: (إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء إستحياءً منه) يضرب لنا مثلاً من الواقع، شخصية تميزت بالحياء، فتتحمس النفوس.
فهكذا تكون جهود المربين.
إذاً: من عوامل تصحيح الأخلاق السيئة واستبدالها بأخلاق حسنة -وهذا واجبنا جميعاً- أن نربي أنفسنا ونربي غيرنا.
والحقيقة أيها الإخوة أن الكلام في موضوع الأخلاق كلام طويل، ونظراً لكثرة المشاكل الموجودة في الواقع والعلاقات، والإخوة الذين ساءت علاقتهم ببعضهم، والأزواج والناس والجيران، فالأمر يحتاج إلى تأكيد ويحتاج إلى زيادة كلام وعرض وإيضاح، ولذلك يحتمل أن يكون هناك درس آخر بعنوان: شجرة أخلاق المسلم، نذكر فيها ونعدد الأخلاق الإسلامية ما هي؟ وما أدلتها وأمثلتها؟ يعني بأي شيء تتخلق؟ إذا نحن عرضنا الأخلاق وأهميتها في القرآن والسنة، وقدوتنا الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض الأخلاق السيئة والمحمودة، وكيفية التخلص من الأخلاق السيئة واكتساب الأخلاق الحميدة.
فلعلنا نتبع هذا بموضوع آخر، ما هي الأخلاق التي يجب أن نتخلق بها نظرياً وعملياً؟ وكيف نقلت هذه الأخلاق الحسنة إلى الواقع؟ وكيف طبقها الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والأنبياء والتابعون؟ وهكذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.