للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ثناء العلماء على حسن تأليف ابن القيم]

وكان أسلوبه جذاباً.

يقول العلامة الشوكاني رحمه الله: وله من حسن التصرف مع العذوبة الزائدة وحسن السياق ما لا يقدر عليه غالب المصنفين؛ بحيث تعشق الأفهام كلامه، وتميل إليه الأذهان، وتحبه القلوب؛ حتى قال ابن حجر -رحمه الله-: إن مؤلفات ابن القيم مرغوبة عند جميع الطوائف، ولو كانوا ممن يعادون ابن القيم فكانوا يقبلون على كتبه -رحمه الله- وكان حسن الترتيب يسوق الأمور بسياقات حسنة، حتى في مؤلفاته كان تضرعه وابتهاله إلى الله يظهر، فمثلاً يقول رحمه الله في كتاب أعلام الموقعين عن رب العالمين بعد أن شرح قول الله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} [إبراهيم:٢٤] قال ابن القيم بعد ذلك: فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم، ولعلها قطرة من بحر بحسب أذهاننا الواقفة، وقلوبنا المخطئة، وعلومنا القاصرة، وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار، وإلا فلو طهرت منا القلوب، وصفت الأذهان، وزكت النفوس، وخلصت الأعمال، وتجردت الهمم للتلقي عن الله ورسوله، لشاهدنا من معاني كلام الله وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم، وتتلاشى عنده معارف الخلق.

انظر! يقول هذا وهو من هو -رحمه الله- في سعة علمه وتواضعه؟ وقال في فاتحة كتابه روضة المحبين: والمرغوب إلى من يقف على هذا الكتاب أن يعذر صاحبه، فإنه ألفه في حال بعده عن وطنه، وغيبته عن كتبه، فما عسى أن يبلغ خاطره المكدود، وسعيه المجهود، مع بضاعته المزجاة- أي: القليلة- التي حقيقٌ بحاملها أن يقال فيه: تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه، يقول: وهاهو المؤلف -أي: نفسه- قد نصب نفسه هدفاً لسهام الراشقين، وغرضاً لأسنة الطاعنين، فلقارئه غنمه، وعلى مؤلفه غرمه، وهذه بضاعته تعرض عليك، وموليته تهدى إليك، فإن صادفت كفئاً كريماً لها لم تعدم منه إمساكاً بمعروف، أو تسريحاً بإحسان، وإن صادفت غيره، فالله تعالى المستعان وعليه التكلان.

وقال في فاتحة كتاب زاد المعاد، وكتاب زاد المعاد آخر طبعة طبع فيها الآن خمسة مجلدات ألفها ابن القيم -رحمه الله- في السفر بسبب أن رجلاً سأله عن مسألة في الحج، فتعجب ابن القيم أن رجلاً من المسلمين لا يدري عن حكم هذه المسألة، فكان ذلك دافعاً لتأليف كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد.

يقول في مقدمة الكتاب: "وهذه كلماتٌ يسيرةٌ، لا يستغني عن معرفتها من له أدنى نعمة إلى معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته وهديه، اقتضاها الخاطر المكدود على عجره وبجره- أي: اقتضاه خاطري على عيوب خاطري- مع البضاعة المزجاة مع تعليقها في حال السفر لا الإقامة، والقلب بكل وادٍ منه شعبة، والهمة قد تفرقت شذر مذر".

اهـ.

قارن بين هذا الكلام وبين ما يكتبه الناس -اليوم- الذين ما رسخت أقدامهم في العلم، ولا نبتت لهم ريش العلم يطيرون به، يكتب الواحد على غلاف الكتاب: شرحه وحققه وهذبه ونقحه وبسطه.

إلى آخره!! ويصف نفسه بألقاب المديح وهو لا يصل إلى مقدار أنملة ابن القيم -رحمه الله- في العلم، ومع ذلك صار عامة كثير من الناس الذين يتطفلون على العلم في هذا الزمان يمدحون أنفسهم في كتبهم، وعلى الغلاف تجد: ألفه المدقق الفهامة البحاثة، وهو من هو لا يساوي شيئاً بجانب علمائنا، وهؤلاء يقولون: هذه كلمات يسيرة، وهي خمس مجلدات!! وكان في تأليفه -رحمه الله- يقع له أمور مثل ما وقع له في تأليف كتاب تحفة المودود بأحكام المولود وهو كتاب، عظيم لا يُعرف أنه قد جمع في أحكام المولود مثل هذا الكتاب.

له في تأليفه قصة لطيفة جداً وهي: أن ولد ابن القيم وُلد له ولد -أي: صار لـ ابن القيم حفيد- بمعنى أنه صار جداً، فالعادة أن الجد يهدي لحفيده هدية، فـ ابن القيم -رحمه الله- لما جاءه هذا الحفيد، ما كان عنده شيء من متاع الدنيا يهديه لحفيده، حيث كان فقيراً، فصنف هذا الكتاب وأعطاه لابنه، وقال: أتحفك بهذا الكتاب إذ لم يكن عندي شيء من الدنيا أعطيك، تكلم فيه عن العقيقة وأحكامها، وحلق شعر المولود، وختانه، وتسميته، والأسماء القبيحة والأسماء الحسنة، وأمور كثيرة جداً حتى تعرض لدقائق المسائل، مثل: إنسان لم يعق عنه أبوه وقد كبر، فهل يعق عن نفسه، أو لا؟ في مباحث أخرى مبسوطة داخل هذا الكتاب.