للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التعفف والزهد]

وفي مقابل الكرم يجب على الداعية أن يكون على خلقٍ عظيمٍ جداً ومؤثر للغاية، وهو خلق (التعفف والزهد) التعفف والتجرد عن المطامع، وهذا الكلام مهمٌ بالنسبة للدعاة الذين يقولون: إننا نريد أن ندعو علية القوم والأغنياء والوجهاء، يقولون: هؤلاء لو استقام الواحد منهم فإنه ينفع المسلمين نفعاً كبيراً.

نقول: إن الذي يحتك بهذه الطبقة من الناس -التجار والوجهاء- ويريد أن يدعوهم عليه أن يهتم بهذا الخلق غاية الاهتمام، وهو خلق التعفف والزهد، لأن من توجه إليه الدعوة إذا رأى أن الداعية ينافسه فيما آتاه الله؛ فإنه سيشك في إخلاصه، فلا بد أن يوضح الداعية أنه ليس طالب جاه ولا منصب، ولا رائد ثروة ولا مال.

قيل لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يقال إنك تريد الملك؟ يقال: إنك بسيرتك وأعمالك هذه تريد أن تصل في النهاية إلى الإمساك بزمام الأمور، تريد الملك؟ فقال في دهشة وقوة: أنا أريد الملك؟!! والله إن ملك التتر لا يساوي عندي درهماً.

ومن المواقف التي حفظها التاريخ الحديث، موقف الشيخ سعيد الحلبي وهو من الأساتذة المربين في القرن الماضي، كان يلقي درساً في جامع من جوامع دمشق، فجاء إبراهيم باشا وكان من الظلمة، وكان حاكم سورية في وقته، وكان معروفاً بالقسوة والعنف، فدخل المسجد ووقف عند الباب، وكان الشيخ يشكو ألماً في رجله وكان ماداً رجله إلى الأمام؛ لأنه كان مستنداً إلى جدار المحراب فدخل إبراهيم باشا ومعه العسكر والشرطة، فانتظر أن يقبض الشيخ رجله احتراماً للوالي ولكن الشيخ لم يفعل، فخاف أصحابه عليه من السيف، وقبضوا ثيابهم لكيلا يصيبها دمه، وبقي إبراهيم باشا واقفاً والشيخ لم يغير من جلسته، ثم رجع وأرسل بعد ذلك صرة فيها دنانير ذهبية مع أحد الخدم، وقال له: تقدم إلى سيدنا الشيخ سعيد الحلبي، وقل له: هذه هدية من إبراهيم باشا، فلما جاء الخادم إلى الشيخ وأعطاه الصرة، قال له الشيخ كلمة بليغة: قل لسيدك: إن الذي يمد رجله لا يمد يده.

وذهب أحد العلماء الصالحين ليشتري حاجة من دكان، فلما جاء إلى الدكان وسام السلعة، لم يكن البائع يعرفه، فقام أحد الموجودين بتعريف الشيخ وقال: هذا فلان العالم العامل، فعندما سمع العالم بذلك ولَّى هارباً فناداه البائع إلى أين يا سيدي؟ فقال: أريد يا أخي أن أشتري بمالي لا بديني.

ولما ذهب بعض الدعاة إلى بعض القرى للدعوة، لقوا إعراضاً وامتهاناً من بعض أهل القرية، لماذا؟ لأنهم ظنوهم مثل بعض الشحاذين، الذين كانوا يأتون للوعظ ثم يسألون الناس بعد الموعظة، وهذا منكر لو حصل في أي مسجد، ومن فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله منع هؤلاء الذين يعظون للتسول.

فأقول: إن الناس إذا لمسوا أن الداعية عنده أي مطمع دنيوي؛ أو رغبة مادية بما في أيدهم، فإنه يسقط من أعينهم تلقائياً -مباشرة- بل إن عمرو بن عبيد المعتزلي المبتدع بلغ من قلب أبي جعفر المنصور مبلغاً، ونال إعجابه بهذا المسلك وهو التعفف عما في أيدي السلاطين، حتى قال المنصور لبعض من عنده:

كلكم يمشي الرويد

كلكم طالب صيد

غير عمرو بن عبيد

فعلى الداعية إلى الله أن ينتبه من استخدام أغراض الآخرين، أو طلب الأشياء منهم، أو أن يمد يده فيطلب منهم أمراً من الأمور، وقد لا يكون الطلب حراماً، لكن من جهة الداعية لا يصلح أن يطلب من المدعو في موقف الدعوة، رأى داعية صاحبه ذاهباً، فقال: إلى أين؟ قال: إلى فلان -أحد المتفوقين دراسياً- منها دعوة ومنها يشرح لي.

وقفة: لا مانع أن يكون دخول الداعية على مدعو عبر شرح درسٍ له، ويظهر له أنه يحتاج إلى شرحه، لكن المانع إذا أحس المدعو أن الداعي يريد أن يستغله ويستفيد منه لأمرٍ شخصي، فهل يا ترى تؤثر فيه الدعوة وكلمات الداعية؟! ولذلك على الداعية أن يكون منتبهاً جداً إلى هذه القضية، وألا يطلب من المدعو شيئاً إلا نادراً، أو لمصلحة واضحة، ففكِّر إذاً قبل أن تطلب منه حاجة، أو تأخذ منه سيارة ونحو ذلك، فكر بأثر ذلك عليه، وأجِّلْ هذا فإنه سيأتيك بما معه لو أن الله قذف في قلبه نور الإيمان، الشاهد: التعفف عما في أيدي المدعوين ولو كان مغرياً، فإن الدنيا مغريات.