الأسرة محضن تربية، ومشاعر حبٍ وحنانٍ، وهي رحمة وتكافل، ولكننا أيها الإخوة: إذا نظرنا اليوم إلى حال الأسر، لوجدنا كثيراً من الأسر تعيش في تعاسةٍ وشقاء؛ للابتعاد عن الشريعة وتضييع الأحكام، وسنضرب الأمثلة على ذلك مع ذكر بعض الأسباب التي تؤدي وأدت إلى تفكك الأسر وتمزقها، ولكننا لابد أن نضرب مثالاً في البداية من حال الأسر الإسلامية السعيدة، التي قامت على المنهج الإلهي، قال الله سبحانه:{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}[الأنبياء:٨٩] التجأ إلى الله بالدعاء، كما قال الله في مطلع سورة مريم:{كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}[مريم:١ - ٢] هذا ذكر الله لرحمة عبده زكريا، وهذه هي القصة:{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً}[مريم:٣] للإخلاص الذي عنده ناداه نداءً خفياً، فقال:{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً}[مريم:٤].
رق عظمي، والعظم هو المكون الأساسي للجسد، فإذا وهن العظم وضعف، فمعنى ذلك أن الجسد كله يضعف {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً}[مريم:٤] أي: انتشر الشيب في شعر الرأس: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً}[مريم:٤] لقد عوضتني يا رب عن الإجابة، فما كنتُ شقياً في دعوتك، أسألك بهذا:{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي}[مريم:٥] أي: ومن سأتركهم من روائي بعد موتي لا يصلحون لإقامة الدين ولا للدعوة {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً}[مريم:٥] أي: لا تلد، فإذاً يطلب:{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}[مريم:٥ - ٦] ليس وراثة المال، لكن وراثة النبوة {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً}[مريم:٦] أي: ترضى عنه، فبشره الله ثم بشرتهم الملائكة بولدٍ سماه الله -ولم يسمه لا أبوه ولا أمه- باسمٍ لم يسم به أحدٍ من الناس قبل، سماه: يحيى {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}[الأنبياء:٨٩ - ٩٠].
هذه الأسرة المسلمة، التقية النقية، الطائعة لله، هذا الأب النبي، وهذا الولد النبي، وهذه الزوجة الصالحة -أصلحنا له زوجه- كيف كانوا يفعلون؟ {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}[الأنبياء:٩٠] الأسرة كلها تتجه إلى العبادة، وإلى المسارعة في مرضات الله:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً}[الأنبياء:٩٠] في حال الشدة والرخاء يتوجهون إلينا بالعبادة: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}[الأنبياء:٩٠] فلم يكونوا منصرفين عن العبادة إلى هذه الدنيا فقط، وإنما كانوا يعبدون الله سبحانه وتعالى، هكذا كانت الأسر، وتخيل أسرة فيها داود الأب وسليمان الابن عليهما السلام، كيف يكون حالها؟