[فوائد من معرفة تاريخ ابن تيمية]
نحن الآن لسنا بصدد دراسة تاريخ الأنبياء والدعوات؛ ولكن نريد أن نذكرها في البداية لنؤكد عليها، وعلى رأس ذلك سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وسيرة الصحابة من بعده والخلفاء الراشدين، وسير العلماء الذين كانوا يبينون للناس الأحكام الشرعية، عندما تقوم المحن يظهر دور العلماء عندما يعم الجهل يقوم المخلصون من أهل العلم بالبيان والصدع بالحق، مثلما قام الإمام أحمد رحمه الله لما ظهرت المبتدعة على أهل السنة بالقول بخلق القرآن.
ومثلما ظهر شيخ الإسلام رحمه الله لما تكالب المبتدعة من كل جانب، فصنف المصنفات للرد عليهم، سواء الباطنية، أو المنحرفة في باب الأسماء والصفات، أو المبتدعة ومجيزي التوسل وأصحاب الموالد، أو الذين كانوا يحاربون الدين من النصارى؛ فرد على النصارى واليهود، وبيَّن بياناً مهماً باطل التتر، لأن الناس عندما هجم التتر واكتسحوا بلاد العالم الإسلامي بعد فترة ادعى بعض التتر الإسلام، ولكنهم استمروا في هجومهم الكاسح، حتى وصلوا إلى قريب من دمشق، وعند ذلك خرج المسلمون لملاقاتهم، ولكن طرأت شبهة على المسلمين وهي: كيف نقاتل التتر وقد ادعوا الإسلام ونحن لنا الظاهر وهم ليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يدخلوا في طاعته أصلاً؟ وقد انطلت هذه المسألة على كثيرٍ من الناس، واحتاروا كيف يقاتلون التتر، وهذا قائد التتر قد جاء معه بإمام وقاضٍ ومؤذن، فكيف يقاتلوه؛ فظهر شيخ الإسلام رحمه الله علماً بارزاً وسراجاً منيراً، فقال للناس: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسين به من المعاصي والظلم وأكثر من ذلك، فتفطن العلماء والناس، وكان يقول شيخ الإسلام: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني -أي: إذا رأيتموني من جانب التتر وعلى رأسي مصحف فاقتلوني -ابدءوا بي أنا- ثم حمس الناس على القتال، وكان انتصاراً عظيماً للمسلمين في معركة شقحب بالقيادة الحقيقية لأهل العلم، وعلى رأسهم شيخ العلم ابن تيمية رحمه الله تعالى.
فلولا هذا البيان لحصل للناس ذعرٌ، وحصلت انشقاقات واختلافٌ كبير كان سيؤدي بهم إلى الهزيمة.
ثم قَعَّد شيخ الإسلام في بيان حقيقة التتار قواعد كبيرة، وبيَّن بأن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، وأنه لا بد من تصور حال التتار ومعرفة ما هم عليه، ولهذا فقد بيَّن أهل العلم أن معهم كتاب الياسق، وكتاب الياسق هو عبارة عن تشريعات مجمَّعة من ملة الإسلام واليهودية والنصرانية وأشياء من المذاهب المنحرفة الأخرى، جمَّعها لهم ملكهم وأمرهم أن يسيروا عليها.
فبيَّن لهم ابن تيمية أن خلط الحق بالباطل كفر، وأن هؤلاء يريدون استئصال شأفة المسلمين ولو كانوا على الحق، لماذا يغيرون على المسلمين؟ ولماذا يخربون مدن المسلمين؟ ولماذا يقتلون المسلمين إذاً؟ يقول شيخ الإسلام للناس: ليسوا أحق بالإسلام منا؛ ولذلك فقد كان بسبب هذا البيان خيرٌ عظيم.
ومن الأمثلة كذلك ما استعان به أهل الجرح والتعديل في كشف كذب الرواة، حيث استعانوا بالتاريخ في معرفة من لقي من الرواة البعض الآخر ومن لم يلقه، وكشفوا الانقطاع في الأسانيد من خلال التاريخ، بل ودرسوا من دخل المدينة الفلانية ومن لم يدخلها، ومن الذي يمكن أن يكون قد اجتمع بالراوي الفلاني.
ومن الذي لا يمكن أن يجتمع به، فكشفوا أموراً كثيرة من التدليس، وبينوا بناءً على ذلك صحة الأحاديث من ضعفها.
ومن الأمثلة الطريفة في استعمال التاريخ في كشف الأشياء المزورة، ما فعله الخطيب البغدادي رحمه الله، فإن بعض اليهود الخيابرة -من أهل خيبر - أظهروا كتاباً، قالوا: هذا كتاب من عهد النبوة، مكتوب في هذا الكتاب إسقاط الجزية عنهم، فلما عرض الكتاب على أمير المسلمين في ذلك المكان اطلع عليه الخطيب البغدادي رحمه الله، فقال الخطيب: هذا الكتاب كذب لا يمكن أن يكون صحيحاً.
فقالوا له: وما الدليل على كذبه؟ قال: لأنه موجود -لاحظ الذكاء والفطنة- من الشهود على الكتاب في الأسفل معاوية بن أبي سفيان وسعد بن معاذ، فأما معاوية فإنه أسلم عام الفتح، وخيبر كانت قبل الفتح، وأما سعد بن معاذ فقد قتل بعد الخندق بعد بني قريظة، وغزوة بني قريظة كانت قبل فتح خيبر، فكيف تدَّعون أنه شهد على الكتاب بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، فـ معاوية أسلم بعد خيبر وسعد مات قبل خيبر، فكشف زورهم وبهتانهم.