للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إسلام عمر رضي الله عنه]

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:١].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله: إن هذا الدين لما نزل وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم للناس، وربى عليه من ربى من الناس، أخرج لنا أفذاذاً ورجالاً عرفهم التاريخ، وتكلم عنهم الناس مسلمهم وكافرهم، خلف هذا الدين رجالاً حملوا لواءه وحكموه في العالمين، وصاروا قدوات ومنارات يهتدي بهم من بعدهم، وإن من حق هؤلاء علينا أن نعرف سيرهم، ونبلو أخبارهم، أولاً لنعرف عظمة هذا الدين الذي أخرج هؤلاء الرجال، وثانياً: لأننا نقتدي بسلفنا، ونقتدي بأئمتنا، وهؤلاء الأئمة الأعلام منارات يهتدى بها في دجى الظلمات، ونعلم -أيضاً- بأن هذه النماذج يمكن أن تتكرر بدرجات أقل ولا شك إذا ما وجدت البيئة الإسلامية والتربية التي تصقل النفوس وتهذبها، فتغرس العقيدة وتصقل النفوس وتخلقها بأخلاق النبوة.

ولا شك أن شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه شخصية مثالية من الشخصيات العظيمة التي مرت في تاريخنا الغني الذي غفل عنه الكثيرون، وإن استرجاع سير مثل هذه الشخصية، يذكر الغافلين منا الذين خدعهم الغرب والشرق بسير عظماء عندهم؛ لو نظر الناظر لعرف أن واحدهم لا يخلو من انتهازيةٍ أو فسقٍ أو شرب خمرٍ، أو ظلمٍ أو بغيٍ وجور، ويبقى أعلام الإسلام لا يوجد لهم مثيل.

إن عمر رضي الله عنه كان في الجاهلية يعبد الأصنام، وكان يئد ابنته، ويفعل الأفاعيل، ويظلم الناس، وظلم المسلمين حتى قال سعيد بن زيد: [لقد رأيتني وإن عمر لموثقي وأخته على الإسلام] ولكنه أسلم وشاء الله أن ينتقل عمر من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام، فتغيرت الشخصية وانقلبت تمام الانقلاب، وكان لذلك بادرة، وما سيأتي من الأحاديث الصحيحة والحسنة في سيرة هذا الرجل تدل على جوانب من عظمته، لقد كان المسلمون يستبعدون إسلام عمر، حتى قالت أم عبد الله بنت أبي حثمة: [والله إنه لنرتحل إلى أرض الحبشة إذ أقبل عمر حتى وقف علي، وهو على شركه، قالت: وكنا نلقى منه أذىً لنا وشراً علينا، فقالت: فقال عمر لما رآهم يتأهبون للجلاء عن مكة: إنه الانطلاق يا أبا عبد الله! قالت: قلت: نعم.

والله لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجاً، قالت: فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقةً لم أكن أراها، ثم انصرف، وقد أحزنه فيما أرى خروجنا، قالت: فجاء عامر بن ربيعة فقلت له: يا أبو عبد الله! لو رأيت عمر آنفاً ورقته، وحزنه علينا، قال: أطمعتِ في إسلامه؟ قالت: قلت: نعم.

قال: لا يسلم الذي رأيتِ حتى يسلم حمار الخطاب] هل يسلم الحمار؟ قالها يأساً لما كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام، ولكن الله إذا أراد أن يهدي هدى، ولو كان الرجل أقسى الناس قلباً وأبعدهم عن الله، وهذا درسٌ للدعاة إلى الله عز وجل، ألا ييأسوا من الناس، ولو كان من يرون أمامهم من أغلظ الناس قلباً، لكن الله إذا أراد بعبدٍ خيراً هيأه له ووفقه له، ويسر الأسباب إليه، وهكذا حصل.

فلما أسلم عمر ونطق بالشهادتين كان إسلامه فتحاً ولم يكن إسلامه سراً، بل إنه قد جاء في الحديث الحسن بطرقه أنه لما أسلم قال: [أي قريشٍ أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجمحي، قال: فغدا عليه عمر، قال عبد الله: وغدوت أتبع أثره أنظر ما يفعل وأنا غلام، أعقل كل ما رأيت حتى جاءه، فقال: أما علمت يا جميل! أني قد أسلمت ودخلت في دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رجليه فتبعه عمر وتبعت أبي، حتى إذا قام على باب المسجد - جميل المشرك الإذاعة- وقف على باب المسجد وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! -وهم في أنديتهم حول الكعبة- ألا إن عمر قد صبأ، قال: يقول عمر من خلفه: كذبت ولكن قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، فأعلنها صراحةً أمامهم، هذه العزة التي دخلت قلبه فأورثته هذه الصراحة وهذه الجرأة على الكفرة، إعلان المبادئ، قال: وثاروا عليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم، قال: وتعب وأرهق، فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركتموها لنا، قال: فبينما هم على ذلك، إذ أقبل شيخٌ من قريش وهو العاص بن وائل، فصرفهم عنه وإلا كانوا قتلوه].