للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ابن جرير وطلب العلم في العراق]

بعد ما انتهى ابن جرير من الري ذهب إلى بغداد، ليلحق بالإمام أحمد رحمه الله؛ ليأخذ عنه الحديث، لكن الذي حصل أن الإمام أحمد رحمه الله توفي سنة (٢٤١هـ) قبل أن يصل ابن جرير إلى بغداد، ففاته الإمام أحمد رحمه الله، لكنه أقام في مدينة السلام حاضرة العلم والعلماء في ذلك الوقت، يأخذ عن محدثيها الحديث، والفقه عن فقهائها على مختلف المذاهب، وبعد أن انتهى من بغداد انحدر إلى البصرة، فسمع الحديث من محدثي البصرة من محمد بن موسى الحرشي، وعماد بن موسى القزاز، ومحمد بن عبد الأعلى الصنعاني، وبشر بن معاذ، ومحمد بن بشار بندار، ومحمد بن المعلّى.

بعدها انتقل من البصرة إلى واسط، فسمع من شيوخ واسط، ثم انتقل إلى الكوفة، فأخذ عن كبار علماء الكوفة: من أبي كريب محمد بن العلاء الهمداني، وهناد بن السري المحدث المشهور، وإسماعيل بن موسى وغيرهم يقال: إنه سمع من أبي كريب مائة ألف حديث، وأخذ القراءات عن سليمان الطلحي.

بعد أن جمع علم البصرة والكوفة وواسط رجع إلى بغداد ثانية فإنه لم يرتو منها بعد، لكن الإنسان يأخذ أهم الموجود، ويريد أن يلحق علماء البلد الآخر، فإذا انتهى رجع إلى ما كان قد تركه في البلد الأول؛ خشية أن يفوته علماء البلد الثاني، أو يموت أو يذهب قبل أن يلحق على علمه.

أقام بـ بغداد مدة، فدرس علوم القرآن عامة وعلم القراءات خاصة، وتلقى فقه الشافعي على الزعفراني، وكتب عنه كتاباً في الفقه، ودرس في بغداد على أبي سعيد الاصطخري، وعرف أبو جعفر الطبري في بغداد في هذه الفترة وبدأ يشتهر، وأقر له أهل العلم بالفضل، وبدأ نبوغه يظهر.

فإذاً: يظهر الإنسان بعلمه بعد مرحلة التأسيس، وليس هناك ظهور قبل التأسيس، وكان عمر رضي الله عنه يقول: [تفقهوا قبل أن تَسُودُوا أو تُسَوَّدُوا] لأن الإنسان إذا صار في منصب أو صار سيداً قبل أن يتفقه؛ فإن هذا المنصب سيمنعه عن الطلب من عدة جهات.

أولاً: ربما يستحي وهو في هذا المنصب أن يجلس مع الصغار ليطلب العلم.

ثانياً: أن المنصب له أشغال كثيرة، ولو تزوج وولد له أولاد أو صار في منصب صار في شغل في تجارة في وظيفة لها أشغال ومتطلبات، فلن يكون عنده وقتاً كافياً لطلب العلم، بخلاف ما لو كان منذ أول أمره قبل الارتباطات والمسئوليات يطلب العلم، فإذا صار سيداً أو صار في مكانة، ثم لم يتفقه افتضح بين الناس؛ لأنه ليس عنده شيء يعطيه ربما يسأل ربما يؤتى إليه، أو ربما يجعل حكماً في قضية، أو ربما يلجأ إليه في شيء ما عنده علم، فيفتضح بين الناس، وربما يحكم بشيء مخالف للشرع، أو يتاجر مثلاً في أشياء وهو ما فقه علم البيوع، فيرتكب محرمات في أثناء التجارة.

على أية حال، لا بد من مرحلة التأسيس والتفقه من الصغر، ثم إن النبوغ بين الناس والاشتهار بالعلم يكون بعد أن يؤسس نفسه.

بدأ الطبري رحمه الله يعرف بالعلم في بغداد بعدما رجع إليها في المرة الثانية، فبدأ يتكلم ويذكر اسمه في المجالس، وبدأ الإنصات لأقواله، والواحد إذا صار في درس الشيخ، فإن طلاب الشيخ ليسوا سواء، فهناك المعيد الذي يعيد الدرس بعد الشيخ، لمن يحتاج إلى إعادة لما كتب، أي: الذي جاء متأخراً وفاتته الحلقة.

تلاميذ الدرس رتب: هناك تلاميذ متقدمون، وهناك متوسطون وهناك مبتدئون، وهؤلاء التلاميذ المتقدمون لا شك أنهم قد يسألون عن أشياء مما ذكره الشيخ، أو من بعض المسائل، ويكون لهم رتبة فينبغون، وطريقة الحلق تساعد على نبوغ الطالب وتدرجه من مرحلة إلى مرحلة، وتبوئه مكانه الصحيح بين طلبة العلم.