الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله! ولا حول ولا وقوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، وحامل لواء الحمد، وصاحب المقام المحمود، الشفيع المشفع يوم الدين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله! وبعد حياة حافلة بالمؤامرات على الإسلام مات عبد الله بن أبي ابن سلول، وذهب منافقاً إلى ربه، فماذا كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم؟ وماذا حصل في نهاية قصة ذلك الرجل؟ روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله، فقال:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً}[التوبة:٨٠] وسأزيده على السبعين، قال: إنه منافق، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}[التوبة:٨٤]) الحديث رواه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، قال ابن حجر أحمد بن علي العسقلاني صاحب كتاب فتح الباري بشرح صحيح البخاري رحمه الله تعالى في قول البخاري: جاء ابنه عبد الله بن عبد الله القصة: لما احتضر عبد الله، أي: ابن أبي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:(يا نبي الله إن أبي قد احتضر فأحب أن تشهده وتصلي عليه، قال: ما اسمك؟ قال: الحباب، قال: بل أنت عبد الله).
وكان عبد الله بن عبد الله بن أبي من فضلاء الصحابة، وشهد بدراً وما بعدها، واستشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق، ومن مناقبه: أنه بلغه بعض مقالات أبيه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتله، خشي إن قتله أحد المسلمين ألا يتحمل الموقف، فقال: أقتله بيدي، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(بل أحسن صحبته) أخرجه ابن مندة من حديث أبي هريرة بإسناد حسن، وكأنه كان يحمل أمر أبيه على ظاهر الإسلام، فلذلك التمس من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر عنده ويصلي عليه، ولا سيما وقد ورد ما يدل على أنه فعل ذلك بعهد أبيه، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر والطبري من طريق سعيد كلاهما عن قتادة، قال: أرسل عبد الله بن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه أي: على المنافق، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(أهلكك حب يهود) فقال: يا رسول الله! إنما أرسلت إليك لتستغفر لي، ولم أرسل إليك لتوبخني، ثم سأله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه، فأجابه، وهذا مرسل مع ثقة رجاله، ويعضده ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال: لما مرض عبد الله بن أبي، جاءه النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث، قال ابن حجر: وكأن عبد الله أراد بذلك دفع العار عن ولده وعشيرته بعد موته، فأظهر الرغبة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما ظهر من حاله، إلى أن كشف الله الغطاء عن ذلك، وهذا من أحسن الأجوبة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية:[فقام إليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة، وثبتُ إليه فقلت: يا رسول الله! أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا؟ أعدد عليه قوله] يشير بذلك إلى مثل قوله: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، وإلى مثل قوله: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، وقال عمر يا رسول الله: أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ وكأن عمر رضي الله عنه فهم من قوله تعالى:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}[التوبة:٨٠] أن النبي صلى الله عليه وسلم حتى لو زاد على السبعين لن يغفر الله لـ عبد الله بن أبي مادام قد مات على النفاق، وهذا مقتضى كلام العرب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يريد أن يتألف قوم عبد الله بن أبي وولده المسلم أيضاً، وكذلك فإنه كان رحيماً بأمته، فمشى على فهم كان قد تراءى له، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت) وهكذا أراد أن يزيد، فطول القيام تطويلاً طويلاً، كما جاء في بعض الطرق لهذا الحديث، وقال:(تأخر عني يا عمر) فلما تأخر عنه، وحصلت الصلاة، نزلت الآيات، والله سبحانه وتعالى يبين للمؤمنين:{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}[التوبة:٨٤] قال في رواية: فذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (وما يغني عنه قميصي من الله، وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه) وأنزل الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}[التوبة:٨٤].
وفي حديث ابن عباس، فلم يمكث إلا يسيراً، حتى نزلت، أي الآية، قال: فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله، وهكذا حصل في هذه السيرة لهذا الرجل، وانتهت بإعلان واضح وصريح من رب العزة سبحانه وتعالى بأنه لا مجاملات على حساب العقيدة، وأنه لا يمكن أن يستغفر المؤمنون لرجل من المشركين:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}[التوبة:١١٣] كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل بالظاهر حتى يعلم الحق والحقيقة بالأدلة التي يراها في الواقع، أو بما يوحيه الله إليه، وبين الله تعالى لنا صفات المنافقين، في سور كثيرة من القرآن، وآيات معددة لنحذر منهم، وليس بعجيب ولا غريب أن تكون عدد الآيات في صدر سورة البقرة التي تتكلم عن المنافقين أضعاف عدد الآيات التي تتكلم عن المؤمنين، وكذلك التي تتكلم عن الكافرين الصرحاء، لأن الناس ثلاثة أقسام: مسلم، وكافر صريح، ومنافق يخفي الكفر ويظهر الإسلام، ونظراً لخفاء حال هؤلاء فقد اعتنى الله عز وجل عناية بالغة بذكر صفاتهم، ليحذرهم المؤمنون، وهكذا كان جهادهم أمراً واجباً، بنص قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}[التحريم:٩].
اللهم إن نسألك أن تحيي الإيمان في قلوبنا، اللهم اجعل قلوبنا معمورة بالإيمان واليقين.