جلس أبو هريرة رضي الله عنه على طريقهم فلم يتفطن له أحد، حتى فطن له النبي صلى الله عليه وسلم، فأدخله إلى بيته ووجد لبناً في قدح، فسأل:(من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: الحق إلى أهل الصفة) هات أهل الصفة، وأهل الصفة: أضياف الإسلام، هؤلاء أناس ليس عندهم مال ولا مأوى، كانوا يأوون إلى المسجد النبوي، يقول أبو هريرة في رواية:(كنت من أهل الصفة، كنا إذا أمسينا حضرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر كل رجل فينصرف برجل أو أكثر، فيبقى من بقي عشرة أو أقل أو أكثر فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعشائه فنتعشى معه، فإذا فرغنا، قال: ناموا في المسجد) ما عندهم إلا المسجد.
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يقول:(من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث)، (طعام الاثنين يكفي الثلاثة) خذوا واحداً من أهل الصفة، كل واحد من أهل المدينة معه طعام اثنين يأخذ ثالثاً من أهل الصفة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قسم ناساً من أصحاب الصفة بين أناس من أصحابه، فيذهب الرجل بالرجل، والرجل بالرجلين، حتى ذكر عشرة.
لما جاء هذا القدح من اللبن قال:(يا أبا هر! الحق إلى أهل الصفة ادعهم، وكان عليه الصلاة إذا أتته صدقة بعث بها إليهم -إلى أهل الصفة- ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم وفي رواية: شركهم فيها، وكان يَقبل الهدية ولا يَقبل الصدقة، وإذا قيل له: صدقة، قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل، وإذا قيل: هدية ضرب بيده فأكل معهم) فإذا كان صدقة، قال: اذهبوا بها إلى أهل الصفة، وإذا كان هدية قال: ائتوا بأهل الصفة فيشركهم في هذه الهدية، ويأكل هو وأهله صلى الله عليه وسلم.
والأحوال كانت مختلفة معهم بحسب ما يتيسر في ذلك الوقت، وقد جمع بعض العلماء أسماء أهل الصفة، كما فعل أبو سعيد بن الأعرابي وأبو عبد الرحمن السلمي، وجمع بينهما أبو نعيم في أوائل كتاب: الحلية فسرد جميع الأسماء، وقيل: إنهم كانوا سبعين، والصحيح أنهم كانوا يقلون ويكثرون بحسب الأحوال، فلما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي هريرة:(ادع أهل الصفة، قال أبو هريرة: فساءني ذلك وفي رواية: أحزنني ذلك) أي: أنا الآن في غاية الجوع، وغاية الجهد، ومحتاج إلى شربة لبن، يقول: اذهب إلى أهل الصفة! نعم.
وأهل الصفة ماذا يكفيهم؟! وإذا كفاهم ماذا يبقى لي؟! لا شيء، لذلك أبو هريرة:(فأحزنني ذلك، فقلت -أي: في نفسي- وما هذا اللبن؟! -أي: ماذا يجزئ؟ وماذا يكفي؟ - في أهل الصفة؟ وأين يقع هذا اللبن من أهل الصفة وأنا ورسول الله؟ وكنت أرجو أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها).
ثم الأمر سيكون -أيضاً- زيادة:(فإذا جاء أهل الصفة؛ أمرني عليه الصلاة والسلام فكنت أنا أعطيهم)، أي: بالإضافة إلى ذلك لو دعوت أهل الصفة ولو كنت أنا أول من يشرب، أو ثاني من يشرب أو ثالث من يشرب، كان ذلك طيب، لكن المشكلة سوف أدعوهم ثم أكون أنا المضيف، ويقول لي: ضيفهم، وسأمر بالقدح عليهم واحداً واحداً، فإذاً أنا ساقي القوم:(ساقي القوم آخرهم شرباً) إذاً ذهبت! (فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن) أي: ماذا سيصل إلي بعدما يشربوا منه؟ ولكن يقول أبو هريرة:(ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد) لكن لا يمكن أن نحيد، من يطع الرسول فقد أطاع الله.
قال:(فأتيتهم فدعوتهم، فجاءوا، فاستأذنوا فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت) قيل: إن هؤلاء كانوا سبعين، وقيل: مائة، ولكنهم كانوا يتفاوتون بسبب اختلاف الأحوال، مرة تأتي سرية يخرج بعضهم مع السرية، لتبليغ الدعوة، ويأتي أحياناً أناس من خارج المدينة يزيدون، إذاً كان عددهم يتزايد ويتناقص بحسب الأحوال.