أيها الإخوة: لابد أن نكون في هذه المرحلة في غاية اليقظة والانتباه لما يدبره أعداء الدين، ولأي معركة جانبية نجر إليها ولسنا على مستوى المواجهة الآن، ولأي شيء يريدون إشغال المسلمين به عن القضايا الأساسية، والكليات الشرعية التي يجب أن يسعى إلى تطبيقها، وإلى تمرير الأشياء المخالفة للشريعة بلباس شرعي، وإلى كل من يحاول أن يتسلل إلى الجسد الإسلامي ليبذر فيه بذور الفرقة، ومن يحاول أن يفصم عرى الأخوة الإسلامية، والتسلل بيوتنا وأهلينا وأولادنا، ولعدم الوقوع في أي شيء محرم.
ولقد كان الجيش الإسلامي في الماضي في عهد السلف، إذا استعصى عليهم فتح أتى بهم الخليفة، فسألهم: أولاً: ما هي السنن التي تركتموها؟ ثانياً: ما هي المعاصي التي وقع الجند فيها؟ لأن هذه الأشياء هي التي تسبب الهزيمة، ولابد أن نتحلى بأكبر قدر من ضبط النفس، وهذا مصطلح صحيح يستعمله بعض الساسة، لكننا نستعمله لنبين حقيقة إسلامية مهمة، فالمسلمون لا يجوز لهم أن يُستجروا إلى ما يخططه لهم أعداء الإسلام، من أمور جانبية تستهلك قواهم، وتستنفذ طاقاتهم، وتضعفهم أبداً.
المسلم يضبط نفسه، وكلما أراد أعداء الإسلام أن يستفزوا المسلمين -وأقولها لكم وبكل ثقة وتأكد سيحاولون استفزاز المسلمين- يجب على المسلم أن يضبط نفسه عن أي تهور أو تصرف مستعجل يوافق خطة أعداء الإسلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم في مكة تعرض لاستفزازات كثيرة جداً، آذوه وسبوه وشتموه، ألقوا سلا البعير على ظهره، عذبوا أصحابه أمامه وقُتل بعضهم وهو يسمع أخبارهم، قتلوا في مكة يشاهد الصحابة يعذبون ويقتلون وهو يضبط نفسه ويضبط من معه، حتى تحين اللحظة المناسبة، لم يُستجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى معركة وهو في مبدأ أمره ولا زالت الخلية طرية، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة ويطوف بها، وحولها ثلاثمائة وستون صنماً، مع أنه من أقوى الأمة نفساً على الشرك، وأكره العباد للشرك، يصلي عند الكعبة ويطوف بها وحولها ثلاثمائة وستون صنماً، هو يصلي لله لا للأصنام، ويطوف لله لا بالأصنام، وضبط نفسه ولم يفعل شيئاً يجر الأذى عليه وعلى المسلمين باستئصال شأفتهم وحصدهم أبداً، فضبط نفسه وأصحابه عليه الصلاة والسلام، فلم يخرجوا على الكفار بالسلاح في مكة مطلقاً، ولم يستعملوا السلاح في مرحلة الاستضعاف أبداً، ولو قال قائل: من العسير جداً على نفسي أن أبقى بارداً حيال كل المنكرات الموجودة أمامي؟ أقول لك: نعم، ينبغي أن يثور دمك، وأن تغلي غلياناً من المنكرات التي تشاهدها أمامك، لكن ماذا تفعل؟ ستأتي منكرات كما ورد في بعض الآثار: تأتيكم منكرات لا تستطيع التغيير ماذا تفعل؟ هل ترمي بنفسك وبحفنة ممن معك لتهلك، لا يمكن وليست مصلحة شرعية، سترى منكرات كثيرة لا تستطيع تغييرها، وترى في الواقع بملء عينيك أموراً لا يرضاها الله ورسوله، ولكن اضبط نفسك، أنكر بحيث لا يترتب على الإنكار منكرٌ أعظم.
وأقول وأعيد وأكرر في أكثر من مناسبة: الآن المعركة بالكلام مع أعداء الإسلام، والجهر والصدع بالحق والجرأة فيه مطلوبة، الآن الشغل باللسان والقلم الآن الدعوة بالتبيين والتوضيح، هذا هو الأوان الآن، أما التغيير بالقوة في مكان وزمان لا يستطيع المسلمون في ذلك فهو تهور وعدم حكمة، لا يصلح أبداً أن يقع ذلك من المسلمين.
وبالنتيجة فإن الناس الذين يرون المنكرات تستشري أمامهم، سيكونون أحد قسمين، والثالث الوسط بينهما، فقسم متهور قد يفعل من التصرفات ما لا يحمد عقباه، وقد سبق أن شرحت ذلك في محاضرة (فقه المحنة) وقسم ثان سيصاب بالإحباط واليأس ويقعد في بيته، ويقول: لا أمل للإسلام ولا يمكن أن تقوم للدعوة قائمة، فالناس سيكونون إما يائس أو متهور، إلا من فتح الله عليه -وأنتم منهم إن شاء الله- بعلم وبصيرة من الكتاب والسنة، وفهم للواقع وفقه فيه، واسترشادٍ بكلام أهل العلم بالشريعة وبالواقع، لا يكفي العلم بالشريعة فقط ولا العلم بالواقع فقط، واسترشاد واستشارة واستبيان وطلب البيان من أهل العلم بالشرع والواقع، وعند ذلك ستكونون إن شاء الله مقدمة الطلائع الإسلامية التي تقيم للإسلام عزه وعماده بإذن الله.
وإن قال قائل: قد أجد رجلاً يقبل امرأة في السوق ما زلت لم تشف غليلي بالكلام، وتقول: اضبط نفسك! أقول: أنكر وتكلم ولكن بلسانك، أما أن تبطش بيدك لا يمكنك أن تفعل ذلك الآن، وقد تجد رجلاً يحتضن امرأة على الحشائش في قارعة الطريق، ماذا تفعل؟ تقول: عجزت وبكيت وهربت، أو تقول: تهورت فرجمتهما بالحجارة، لكن أنكر وتكلم واصدع بالإنكار باللسان، وبين وعزر لكن بأي شيء؟ بما جاء في الشريعة من أنواع التعزيرات باللسان، قل: يا فاجر! يا فاجرة! يا سافل! يا سافلة! تفعل هذا عليك غضب الله تزجر لكن باللسان، أما أن تستخدم اليد، فإنه لابد من الضوابط الشرعية وإلا ستضيع أموراً كثيرة.