[زهد الشنقيطي في الدنيا]
وكذلك فإنه كان زاهداً في الدنيا عفيفاً عنها، وقال: الذي يُفرحنا أنه لو كانت الدنيا ميتة، لأباح الله لنا منها سد الخُلة، وكان يأخذ من راتبه مصروف الشهر ويوزع الباقي، قال ابنه: كنت أتولى التوزيع على ضعاف طلبة العلم والعجائز الأرامل من القريبات، وكان يقول: والله لو عندي قوت يومي ما أخذت راتباً من الجامعة، ولكنني مضطر لا أعرف أشتغل بيدي، وكان يحذر ولده كثيراً من الدنيا، ويقول: الكفاف منها يكفي، وإن الشيطان ربما سول للإنسان جمعها ليتصدق بها وهو تلبيس، أي: الشيطان يقول: تاجر واربح لأجل أن تتصدق، ثم ينشغل الإنسان بالدنيا ولا يتصدق إلا بالنزر اليسير، وكان لا يُقرض الناس.
يقول: إن كنت محتاجاً إلى ما عندي فلا أعطيه؛ لأني محتاج إليه، وإن كنت غير محتاج فأعطيه من غير قرض، هبة، أو صدقة، أو هدية، أما قرض لا يمكن.
أصلاً ما عنده شيء يقرضه، يأخذ حاجته ويتصدق بالباقي، وكان لا يبعثر النقود بل يعطيهم شيئاً قليلاً تربية لهم، وقال مرة: أنا مختار وعبد الله لا أعطيهم مالاً؛ لأن الأموال تخرب الرجال، وبعض الناس قد يوزع على أولاده بالآلاف، ثم الولد يفسق ويفجر بها، ويرحل ويسافر بالحرام.
وكان الريال والألف عنده سواء، قال: الريال الواحد والألف سواء، المهم أن يكون صرفها سليماً، وأهدي له بيت في الطائف فرده ولم يقبله، وقال: الذي بناه يحتاجه لنفسه أما أنا فلم أبنه ولا أحتاجه، وعندي بيت في المدينة يكفيني، وبيته بناء شعبي سقفها من خشب، وليس من حديد فيه دوران الأول أربع غرف فوق وتحت أربع غرف للطلبة، ويغص بالمغتربين، وكان يشرب من ماء الزير، ويجلس على الحصير، ويكتب في الدهليز ويطالع.
ولم تبع كتبه في حياته، وقال: علم نتعب عليه ويباع وأنا حي، لا يمكن هذا، ولكن أنا أدفع وآخر يدفع المال، يقول: يأتي تاجر يطبع لي كتبي يوزعها وأنا مستعد، أما أن أبيع كتبي فلا، ويوزع للناس مجاناً وقال: أنا أعلم أنه سيصل إلى من لا يستحقه لكن سيصل أيضاً إلى من لا يستطيع الحصول عليه بالمال، أي: قيل له: اطبعها وضعها في المكتبات، فكان يرفض أن تباع كتبه، وكان لا يلتفت إلى المظهر حتى أن نعله ربما تكون ذات لونين، مرة يغلط يلبس نعالاً أخضر وآخر أحمر، ما كان يبالي بالدنيا إطلاقاً، ولا ينظر في نعال ولا في لباس رحمه الله تعالى.
وقال لبعض طلابه: إني لا أعرف فئات العملة الورقية.
لا يعرف أن يميز الخمسين من المائة من العشرة من عزوفه عن الدنيا واشتغاله بالعلم، وقال: جئت من شنقيط، جئت من البلاد ومعي كنز قل أن يوجد عند أحد وهو القناعة، ولو أردت المناصب لعرفت الطريق إليها، فإني لا أوثر الدنيا على الآخرة، ولا أبذل العلم لنيل المآرب الدنيوية.
ولما حاول بعض طلابه أن يثنيه عن الحج؛ لأن صحته كان سقيمة في آخر عمره، قال: دع عنك المحاولة إن سفري إلى لندن أريد الشفاء بها، لا بد أن أكفر عنه بحج، قال لهم: أني سافرت إلى لندن للعلاج، هذه لا بد لها من تكفير، مع أنه سفر علاج، قال: تكفير لذلك الحج، ولا طالب بمرتب ولا بترفيع، ولا بمكافأة، ولا بعلاوة، ما جاءه من غير سؤال أخذه، ويوزع ما زاد عن حاجته ولم يخلف ديناراً ولا درهماً إطلاقاً.
اتهموه منذ القديم أن رجلاً هجا رجلاً فأعطى المهجو أبيات يرد فيها على الهاجي، فقال: أنا أدخل بين رجلين نزغ الشيطان بينهما لا يمكن أن يكون، ودافع عن نفسه بقصيدة، قال فيها:
وتمنعني من ذاك نفس عزيزة غلا سعرها في السوق يوم كساده
تهاب الخنا والنقص في كل موطن وقلب يقويها بشدة آبه
ولست بمن يغريه من جاء مغرياً ولا من يعادي الدهر من لم يعاده
وإني لأكسو الخل حلة سندسٍ إذا ما كساني من ثياب حداده
وكائن يغيظ المرء ظن حبيبه به السوء بعض الظن إثم فعاده
وكائن أي: وكأين وكم عَادِ ظن السوء وإياك وظن السوء.
وكانت المروءة شعاره، وكان يذهب مع ولد له إلى الحرم المدني في صلاة الظهر في حر الصيف في السيارة، يرجع وقد امتلأت السيارة طلبة وجيرانا، فيقول لولده: عيب أن تنزل أحداً قد ركب، اذهب أنت ماشياً، وبعض زوجاته تبكي عليه، لأنه كان في غاية المراعاة للزوجة، وكان يقول: هذه ضيفة، كلمة تخرجها من البيت (أنت طالق) ولذلك ما زال يبكي عليه أهله بعد وفاته رحمه الله.