كان كثيرٌ من الصحابة يرحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم الإمام العظيم أبو ذرٍ الغفاري رضي الله تعالى عنه، الذي جاء في قصة إسلامه كما في صحيح البخاري لما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأخيه أنيس: اركب إلى هذا الوادي -اذهب إلى مكة - فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق أنيس حتى قدم مكة وسمع من قول النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أبي ذر، فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وسمعته يقول كلاماً ما هو بالشعر، فقال أبو ذر: ما شفيتني فيما أردت.
فتزود أبو ذرٍ -رضي الله عنه- وحمل شنة له فيها ماء -قربة- حتى قدم مكة والتمس النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقع عليه وعثر عليه وأسلم على يديه وتحمل في سبيل ذلك أذى أهل مكة حتى إنهم ما تركوا حجرة ولا مدرة ولا عظماً إلا ضربوه به، لما علموا أنه جاء يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال: خررت مغشياً عليَّ فارتفعت حين ارتفعت كأني نصبٌ أحمر يعني: من كثرة الدماء التي سالت عليه وبعد ذلك لزم النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر معه.
وكان الصحابة يرحلون في طلب العلم، فهذا عمر هو وجاره كانا يتناوبان في طلب العلم، يجلس هذا في المزرعة يوماً، وينزل الآخر يوماً ليتعلم، فيجمعان بين مصلحة طلب العلم، وبين القيام على الأموال واستصلاح الأرض والزراعة.
وكذلك فإنه قد جاء في مناقب أهل اليمن في الصحيح عن عمران بن حصين قال:(دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فتاهت، فأتاه ناس من بني تميم فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم، قالوا: بشرتنا فأعطنا مرتين) ظنوا المسألة فيها عطايا مادية، قالوا: ما دامت بشرى فتوجد عطايا مادية، فتغير وجهه صلى الله عليه وسلم:(ثم دخل عليه ناسٌ من أهل اليمن، فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قبلنا يا رسول الله، قالوا: جئناك من اليمن -يرحلون- لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كان الله ولم يك شيءٌ قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء).
فهذه رحلة أهل اليمن في طلب العلم، ومنهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وله فضلٌ عظيم، وهذا دليلٌ على الرحلة في طلب العلم.
وكذلك فإن هناك أمراً من الأمور العظيمة التي فاتتنا مع الأسف في هذا الزمان وكانت من أكبر أسباب الرحلة في طلب العلم وهي جمع الحديث.
ولا شك -أيها الإخوة- أن من أكبر الأسباب الدافعة لعلماء السلف للرحلة في طلب العلم هي جمع الحديث، فإن القرآن مجموعٌ معلوم، ولا حاجة إلى الرحلة لجمعه؛ لأنه مجموع، أما الحديث فإنه كان قد تفرق في البلدان بتفرق الصحابة، والصحابة علموا من بعدهم، وتفرق الحديث في البلدان فلما أراد العلماء جمع الحديث وكتابة الحديث رحلوا في طلب الأحاديث وجمعها، بل كانوا يرحلون في طلب الحديث لأجل علو السند، فإذا سمعه من رجل قال: من حدثك به؟ قال: فلان بـ الكوفة، فيسافر إلى فلان بـ الكوفة لكي يسمعه من الشيخ الأصلي لكي يكون سنده أعلى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الشيء الذي نتحسر عليه في هذه الأيام؛ لأن جمع الحديث قد انتهى، ولذلك الرحلة في جمع الحديث انتهت بجمع الأحاديث وكتابة الأحاديث وتدوين الأحاديث، ونقول في أنفسنا: يا ليتنا كنا معهم فنفوز فوزاً عظيماً.