[مناقب الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام]
ومن طرائف ما حصل لـ أبي عبيد مع بعض السائلين: نقول: قد يُبتلى العالم بسؤال من جهلة العوام، كأن يأتيه سائل يسأله فيظن العالم أن هذا يريد منه الفائدة العظيمة والحقيقية، فإذا به يكتشف أن هذا السائل من أتفه ما يمكن.
حصلت له قصة طريفة: وذلك أنه جاءه رجل قد يكون السائل ذا لحية كبيرة، مثلما جاء لـ أبي حنيفة رجل مهيب، عليه سمت، فجلس في المجلس فاحشتم أبو حنيفة وقبض رجليه، وكان قد مد رجليه وتكلموا ودار النقاش في المجلس، فإذا هذا السائل يقول: متى يفطر الصائم؟ قال: إذا غربت الشمس.
قال: وإذا لم تغرب؟! فمد أبو حنيفة رجليه، وقال: قد آن لـ أبي حنيفة أن يمد رجليه، يقول: احتشمت منك طيلة هذا الوقت، وظننتك شيئاً، فإذا بك تسأل هذا السؤال الدال على سخف العقل.
فحصلت قصة مشابهة لـ أبي عبيد رحمه الله، جاءه شخصٌ فسأله عن الرباب أبو عبيد من كبار علماء اللغة والغريب، كان يعرف الألفاظ الغريبة مدخلها ومخرجها، هذا تخصص أبي عبيد، فجاءه رجل فسأله عن الرباب؟ فقال أبو عبيد مجيباً بدقته وعلمه العميق: هو الذي يتدلى دُوَين السحاب -أي: قريب السحاب- وأنشده بيتاً لـ عبد الرحمن بن حسان، وأتى بالشاهد الذي يدل على هذا المعنى:
كأن الرباب دُوَين السحاب نعامٌ تُعلق بالأرجلِ
فقال: لم أُرِد هذا، قال أبو عبيد: إذا كنت تريد إطلاقاً آخر؛ فالرباب يطلق على اسم امرأة، وأنشد أبو عبيد بيتاً فيه الدلالة على أن الرباب اسم امرأة قائلاً:
إن الذي قسم الملاحة بيننا وكسا وجوه الغانيات جمالا
وهب الملاحة للرباب وزادها في الوجه من بعد الملاحة خالا
فقال: لم أُرِدْ هذا -أيضاً- فقال أبو عبيد: عساك أردتَ قول الشاعر:
ربابٌ ربةُ البيتِ تصب الخل في الزيتِ
لها سبعُ دجاجاتٍ وديكٌ حسن الصوتِ
قال: هذا أردت، هذه ربما هي نشيدة كانت عند الأطفال ينشدونها في ذلك الوقت:
ربابٌ ربةُ البيتِ تصب الخل في الزيتِ
لها سبعُ دجاجاتٍ وديكٌ حسن الصوتِ
نشيد أطفال، فقال: هذا أردت، فقال: مِن أين أنت؟ قال: مِن البصرة.
قال: على أي شيءٍ جئت؟ على الظهر -أي: الدابة- أم على الماء -أي: في سفينة أو قارب؟ قال: في الماء.
قال: كم أعطيت الملاح؟ قال: أربعة دراهم.
قال: اذهب استرجع منه ما أعطيته، وقل: لم تحمل شيئاً، فعلام تأخذ مني الأجرة؟ وهذا يشبه -أحياناً- من يعتني ببعض القصائد والأناشيد يُتْرك العلم والشيء المهم، كما وقع لبعض الشباب حفظوا قصيدة (صوت صفير البلبلِ) بالنص، وأما البيقونية أو تحفة الأطفال في التجويد أو الرحبية في المواريث لا تحفظ الطرائف ويترك العلم الأساسي من عدم الجدية، ومن تدني المستوى العلمي؛ أن ينشغل الشاب بالأناشيد وتترك القصائد أو أشعار أهل العلم التي نظموها في المصطلح في الأصول في المواريث في الحديث في غيره، تترك وتحفظ بدلها الأشعار التي إن جاءت أو راحت فهي أشياء يمكن أن تكون من المباحات، قد يكون لبعضها فوائد؛ لكن لا ترقى إلى فوائد العلم، فهذا الذي جاء إلى أبي عبيد ويسأله عن الرباب إذا به يريد:
ربابٌ ربةُ البيتِ تصب الخل في الزيتِ
لها سبعُ دجاجاتٍ وديكٌ حسن الصوتِ
وأبو عبيد -رحمه الله تعالى- كانت له أخلاق كثيرة أخرى، وعبادة، وأدبٌ جم، وعلومٌ، وآثار، فسنتحدث عن ذلك -إن شاء الله- تكملة في الدرس القادم، وهو آخر درس في هذه المدة من الإجازة.