[مقتل الصحابة في غزوة الرجيع]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فنحن في هذه الليلة -أيها الإخوة- مع قصة من بطولات الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وما أصابهم من الأذى، وما حصل لهم من الشهادة في سبيل الله، وصبر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المصاب العظيم هو والمسلمون معه، وذلك في هذه القصة التي حصلت في غزوة الرجيع، وقد رواها أبو هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عيناً، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا حتى كانوا بين عسفان ومكة ذُكروا لحيٍ من هذيل يُقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريبٍ من مائة رامٍ واقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه فوجدوا فيه نوى تمرٍ تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد وجاء القوم فأحاطوا بهم، فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلاً.
فقال: عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفرٍ بالنبل، وبقي خبيب وزيد ورجلٌ آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلو أوتار قسيهم فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث: أي المسلم الذي كان معهما: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم، فجروه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه.
وانطلقوا بـ خبيب وزيد حتى باعوهما بـ مكة، فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيراً حتى إذا أجمعوا قتله، استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحد بها، فأعارته، قال: فغفلت عن صبيٍ لها فدرج إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذه فلما رأته فزعتُ منه وفي يده الموسى فقال: أتخشين أن أقتله، ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله.
وكانت تقول: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بـ مكة يومئذٍ ثمرة، وإنه لموثقٌ في الحديد، وما كان إلا رزقٌ رزقه الله، فخرجوا به إلى الحرم ليقتلوه فقال: دعوني أصلي ركعتين ثم انصرف إليهم فقال: [لولا أن تروا أن ما بي جزعٌ من الموت لزدت] فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو، ثم قال: [اللهم أحصهم عددا].
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي شقٍ كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع
ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريشٌ إلى عاصم ليأتوا بشيءٍ من جسده يعرفونه، وكان عاصم قد قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء.
هذه القصة هي غزوة الرجيع، والرجيع اسم موضع من بلاد هذيل كانت فيه هذه الوقعة، وتُسمى أيضاً رعلٍ وذكوان، وهذان البطنان من بطون العرب نسبت الغزوة إليهما، وتسمى أيضاً قصة بئر معونة وهو موضع بين مكة وعسفان وهذه الأسماء الثلاثة لهذه الوقعة التي تُعرف بسرية القراء، وكانت مع بني رعل وذكوان المذكورين.
أما بالنسبة لهذه القصة فقد ذكر أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية عيناً، وهذه السرية كانت عشرة أشخاص عيناً تتجسس للنبي صلى الله عليه وسلم ليأتوه بخبر قريش، وكانوا: عاصم بن ثابت، ومرثد بن أبي مرثد، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، وخالد بن البكير، وزاد بعض أهل السير معتب بن عبيد وكذلك معتب بن عوف، هؤلاء الذين أمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم عاصم بن ثابت.
أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة التي قيل إنها غزوة الرجيع أو بئر معونة ولكن الصحيح أن هذه الغزوة تسمى غزوة الرجيع، وكانت سرية عاصم وخبيب في عشرة أنفس، وحصل القتال فيها مع عضل والقارة، وهذه عضل: بطن من بطون مُضر، وأما القَاَرة فهي أيضاً بطن من بطون العرب، ويُقال أن القَاَرة أكمة سوداء فيها حجارة نزلوا عندها فسميت القبيلة بها، ويضرب بهم المثل في إصابة الرمي، وقال الشاعر:
قد أنصف القارة من راماها
فالصحيح والراجح كما ذكر ابن حجر رحمه الله أن قصة عضل والقارة كانت في غزوة الرجيع، وليس في بئر معونة، فإذاً غزوة الرجيع وبئر معونة، هما غزوتان منفصلتان، غزوة الرجيع في آخر سنة (٣هـ) وبئر معونة في أول سنة (٤ للهجرة) وبالنسبة ليوم الرجيع قدم على النبي عليه الصلاة والسلام رهط من عضل والقارة، فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا -انظر الغدر- فأرسل إلينا أناس من أصحابك يفقهوننا، فبعث معهم ستةً من أصحابه، وعليهم عاصم بن ثابت.
إذاً هذه القصة هي غزوة الرجيع التي فيها سرية عاصم بن ثابت كانت مع عضل والقارة، أما سرية القراء السبعين التي كانت مع رعل وذكوان فإنها تسمى بئر معونة.
فإذاً هما غزوتان منفصلتان، وإن كان الإمام البخاري رحمه الله تعالى قد ترجم ترجمةً تُشعر أنهما شيء واحد، ولكن على التحقيق فإنهما غزوتان منفصلتان، والنبي عليه الصلاة والسلام أرسل ستة من أفاضل أصحابه إلى هؤلاء العرب الذين ادعوا أن فيهم إسلاماً، وأنهم يريدون أناساً يفقهونهم في الدين، أرسل لهم هؤلاء الأفاضل وأمّر عليهم عاصم بن ثابت، وكانوا معهم حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة، قال في الرواية: " ذُكروا لحيٍ من هذيل يقال له بنو لحيان، فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ " وقد جاء أنهم مائتا رجل، فيحمل على أنهم مائة رامٍ، ومائة غير رماة، فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمرٍ، نزل هؤلاء الصحابة بـ الرجيع وأكلوا تمر عجوة، فسقطت نواة في الأرض، وكان هؤلاء يسيرون في الليل ويكمنون بالنهار، فقيل إن امرأة من هذيل ترعى الغنم رأت النواة، فأنكرت صغرها وقالت: هذا تمر يثرب، أي: هذا النوى صغير ليس بأرضنا، فصاحت في قومها أُتيتم، فجاءوا في طلبهم فوجدوهم قد كمنوا في الجبل، فلحقوهم والتجأ الصحابة إلى فدفد، والفدفد هو الرابية المشرفة المرتفع من الأرض.
فأراد هؤلاء خداع الصحابة، قالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلاً، الصحابة ستة والكفار مائتا رجل، قالوا: والله ما نريد قتالكم إنما نريد أن نصيب منكم شيئاً من أهل مكة.
فقال عاصم وهو أميرهم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، ولا أقبل اليوم عهد مشرك، ولما حصل هذا دعا الله فقال: اللهم اخبر عنا رسولك، فاستجاب الله دعاء عاصم وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بالخبر في ذلك اليوم أن هؤلاء قد أصيبوا، ورفض عاصم رضي الله عنه، فأخذوا هؤلاء فقاتلوهم فقتل من قتل، وبقي خبيب وزيد ورجلٌ آخر.