وأما الحاجة الثانية: وهي إملاء الحديث بجامع المنصور، فلم يكن ذلك أمراً سهلاً ويصعب على الخطيب أن يقدم التماسات للسلطان لكي يسمح له بذلك، ولعل قدر الله يجري، وكان يتمنى أن يجري قدر الله بشيءٍ يجعل السلطان من نفسه يأذن له بالتحديث أو يعرف رغبته فيأذن له بالتحديث، فجرت حادثة سنة (٤٤٧هـ) وكان لها الأثر الكبير في رفعة مقام الخطيب البغدادي عند السلطان، ومن كان في ذلك الوقت آخذاً بزمام الأمور، وهذا الحادث هو أن بعض اليهود قد أظهر كتاباً بخط اليد، وادّعى أنه من النبي صلى الله عليه وسلم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وأن فيه شهادات الصحابة وخط علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فرئيس الرؤساء في ذلك الوقت أبو مسلم عرضه على الخطيب، وسمع أن الخطيب محقق من المحققين، ومؤرخ ومحدث؛ فعرض عليه الرسالة، فقال الخطيب لما اطلع على الرسالة فوراً: هذا مزوّر، فقال من أين لك هذا؟ وما هو الدليل؟ قال: في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان ومعاوية أسلم يوم الفتح، وخيبر كانت في سنة (٧هـ) وفي هذه الرسالة أيضاً شهادة سعد بن معاذ رضي الله عنه، وسعد بن معاذ مات يوم الخندق قبل معركة خيبر، فكيف يشهد سعد بن معاذ الذي مات قبل خيبر على قضية حصلت بـ خيبر، وكيف يوقع معاوية بن أبي سفيان الذي أسلم بعد خيبر على قضية حدثت بـ خيبر! هذه فائدة معرفة التواريخ، وكان ذلك من فطنته وعلمه رحمه الله، فاستحسن السلطان ذلك جداً، واعتمده وأمضاه، ولم يُجز اليهود على ما في الكتاب؛ لظهور التزوير، ولعله عاقبهم.
وارتفعت منزلته بهذه القصة عند أبي مسلم وكبر في عينه كثيراً، ووثق به وبدقة علمه؛ فقدمه وصار يذكره، وشاع ذكر الخطيب رحمه الله بعد تلك القصة جداً، وحُمل إلى الخليفة ومعه جزءٌ من سماع الخليفة الآخر القائم بأمر الله، وأراد أن يحدث الخليفة بجزء الخليفة الآخر، فقال الخليفة: هذا رجلٌ كبيرٌ في الحديث ليس له إلى السماع مني حاجة -ذهب إليه ليستمع حديثه منه، وكان الخليفة قد سمعه هو نفسه، فكان الخطيب قد كتبها عنده لما أدخل على الخليفة ومعه جزء الخليفة، وطلب منه أن يسرد عليه الأحاديث التي سمعها، قال الخليفة متعجباً: هذا رجلٌ كبير القدر في الحديث، فليس له إلى السماع مني حاجة، وعنده من الطرق الأخرى ما يستغني عني وعن سماعي- فما حاجته اسألوه؟ قال: حاجتي أن يأذن لي بالإملاء في جامع المنصور.
فأذن للخطيب بالإملاء، واجتمع الناس في جامع المنصور، وأملى الحديث وتمت له اثنتين مما دعا الله بها عند زمزم، وهذا المسجد الكبير الذي يؤمه الطلاب لا شك أنه كان نافذة كبيرة للخطيب رحمه الله؛ لكي يملي أحاديثه وينشر علمه من خلال ذلك المنبر.