للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحفظ نعمة وعبادة]

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأصلي وأسلم على عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه والتابعين.

الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والحمد لله الذي هدانا لهذا الدين، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والحمد لله الذي جعل كتابه محفوظاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩].

فحفظ الله كتابه بأمور كثيرة: منها صدور أهل العلم: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:٤٩].

وحفظه بحفظ شرحه وبيانه في سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لما ألهم أوائل هذه الأمة حفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تبين كلام الله.

وقد أنزل الله هذا الكتاب على أمة أمية، وهم العرب الذين ما كانوا يعرفون القراءة والكتابة إلا في النادر، وكانت معيشتهم في جو من الصفاء، جعلت قرائحهم متقدة، وأذهانهم صافية، ولذلك كان الحفظ عليهم سهلاً، حتى إنهم كانوا يسمعون الخطبة والقصيدة الطويلة فيحفظون ذلك، وما روي أنهم استعادوا الخطيب والشاعر شيئاً من كلامهما.

فصفاء أذهانهم وصِحّت أجسادهم، ونقاوة البيئة وقلة الكتابة فيهم كانت من العوامل التي ساعدت على شدة الحفظ، فأنزل الله الكتاب على تلك الأمة الأمية التي لا تكتب ولا تحسب، وهدى الله من العرب حملة كتابه ووراث نبيه، الذين تلقوا عن النبي الكريم العلم فحفظوه، ثم أدوا ذلك كله إلينا بأمانة، فرضي الله تعالى عنهم وعمن نقل عنهم، ورضي الله عن الحفاظ الذين دونوا أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام حتى وصلت إلينا كاملة متقنة.

والحفظ من النِعم التي أنعم الله بها على الإنسان، ولو لم يكن الإنسان يحفظ لكان في حياته همٌ وصعوبة بالغة، ولكن الله أنعم علينا بهذه الذاكرة التي نحفظ بها.

إن موقع الحفظ في الدين موقع عظيم، ويكفي شرفاً الحافظ لكتاب الله أن الله جعله من أسباب حفظ كتابه، وأن الحافظ من أهل العلم، وينبغي أن يضيف إلى علمه بحفظ الكتاب علماً بفقه الكتاب.

وقد كان حفظ الكتاب وحفظ الحديث من العبادات العظيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل يُريد الزواج ولم يكن يملك ولا خاتماً من حديد، لم يأمره عليه الصلاة والسلام بالاستدانة، وإنما قال له ميسراً: (ماذا معك من القرآن؟) لما طالب بالمهر وليس عند الرجل شيء، قال له عليه الصلاة والسلام في نهاية الأمر: (ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا وسورة كذا، -عدها- قال: أتقرأهن عن ظهر قلب؟ -هذا الحفظ- قال: نعم، قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) فكان حفظه سبباً في تيسير زواجه.

والكلام في فوائد الحفظ كثير، ولكن قلنا: إن الحافظ له أجر عظيم، ويكفي في ميزاته أن جسد الحافظ لا تمسه النار يوم القيامة، فإن القرآن إذا جُمع في إهاب -وهو جلد الحافظ، نفس الحافظ التي بين جنبيه- لا تمسه النار، طالما كان قائماً بأمر الله.