[الرد على القول بأن الإمام أحمد لم يرو عن ابن المديني بعد المحنة]
وهناك -أيضاً- مطعن يطعنون في علي بن المديني رحمه الله، ينبغي الدفاع فيه عنه: يقولون: إن أحمد رحمه الله ما روى عنه شيئاً بعد المحنة.
فالجواب عن هذه القضية: أن المحنة رُفِعَت في أيام الخليفة المتوكل سنة: (٢٣٤ هـ)، وفيها توفي علي بن المديني، فكيف سيحمل أحمد عنه بعد المحنة وهو أصلاً توفي في هذه السنة؟! لكن لا يمنع أن أحمد رحمه الله من أجل تعزيز موقف أهل السنة قد أفتى أو تكلم بعدم الرواية عمن أجاب في المحنة من باب تعزيز الموقف، ولكي يحمل الرواة والمحدثين والفقهاء والعلماء ويلقنهم درساً في القضية، ولكن أحمد رحمه الله زميل علي بن المديني، وروى عنه، وكونه لم يرو عنه بعد المحنة؛ لأن علي بن المديني مات بعد ارتفاع المحنة مباشرةً، وستأتي أخبار بين أحمد بن حنبل رحمه الله وعلي بن المديني بمشيئة الله تعالى.
ودافع الذهبي رحمه الله عن علي بن المديني دفاعاً قوياً لَمَّا أورد العقيلي في كتابه الضعفاء اسم علي بن المديني، وقال العقيلي: "جنح إلى ابن أبي دؤاد والجهمية -كذا يقول- وحديثه مستقيمٌ إن شاء الله".
لا شك أن التعليق بالمشيئة يضعف العملية، ولذلك يقولون: (لا بأس به) أقوى مِن (لا بأس به إن شاء الله)، و (ثقة) أقوى مِن (ثقة إن شاء الله)، و (صدوق) أقوى مِن (صدوق إن شاء الله)؛ لأن تعليق الصيغة بالمشيئة يضعفها.
فالآن العقيلي يزعم في كتابه الضعفاء أن علي بن المديني ضعيف.
كتاب الضعفاء جَمَع فيه أسماء الضعفاء، فيأتي ويضع اسم علي بن المديني فيه؟! يقول الذهبي: وقد بدت منه هفوةٌ -أي: من علي بن المديني رحمه الله- ثم تاب منها، وهذا أبو عبد الله البخاري قد شحن صحيحه بحديث علي بن المديني، ولو تركت حديث علي، وصاحبه محمد، وشيخه عبد الرزاق، وعثمان بن أبي شيبة، وإبراهيم بن سعد، وعفان، وأبان العطار، وإسرائيل، وأزهر السمان، وبهز بن أسد، وثابت البناني، وجرير بن عبد الحميد لغلقنا الباب، وانقطع الخطاب، ولماتت الآثار، واستولت الزنادقة، ولخرج الدجال، أما لك عقلٌ يا عقيلي؟! - الذهبي يقول مناقشاً إيراد علي بن المديني في كتاب الضعفاء - يقول: أفما لك عقلٌ يا عقيلي؟! أتدري فيمن تتكلم؟ وإنما تبعناك في ذكر هذا النمط لنذب عنهم، ولنزيف ما قيل فيهم، كأنك لا تدري أن كل واحد من هؤلاء أوثق منك بطبقات، بل وأوثق من ثقات كثيرين لم توردهم في كتابك، فهذا مما لا يَغتاب فيه محدِّث، وأنا أشتهي أن تعرفني من هو الثقة الثبت الذي ما غلط، ولا انفرد لما لا يُتابَع عليه؟! ثم شرح الذهبي قضية انفراد الثقة، وقال ملخص الكلام: "الثقة إذا انفرد بما ليس عند غيره، هذا دليل على سعة علمه، وأنه سمع أشياء ما سمعوها، أما الصدوق الذي لا يصل إلى مرتبة الثقة إذا انفرد بما انفرد به غيره، كان ذلك شذوذاً".
وهو يعبر عنه بالإنكار رحمه الله.
ثم قال الذهبي: "فَزِنِ الأشياء بالعدل والورع، وأما علي بن المديني فإليه المنتهى في معرفة علل الحديث النبوي مع كمال المعرفة بنقد الرجال، وسعة الحفظ والتبحر في هذا الشأن، بل لعله فردُ زمانه في معناه، وقد أدرك حماد بن زيد، وصنَّف التصانيف وهو تلميذ يحيى بن سعيد القطان ".
هذا قد ذكره الذهبي رحمه الله في كتابه الميزان.
إذاً: هذه خلاصة قضية علاقة علي بن المديني بموضوع محنة خلق القرآن، والجواب عن ذلك.
ومن الذين أجابوا تُقْيَةً: يحيى بن معين.
وأناس آخرين.
أما الذي برز في المسألة فهو الإمام أحمد رحمه الله.
والذين لم يجيبوا قلة يسيرة جداً، بعضهم مات في الحبس، وبعضهم مات تحت العذاب، وما بقي إلا أحمد رحمه الله، والبَقِيَّة كلهم كانوا قد أجابوا تُقْيَةً، أو أنهم تواروا واختفوا، وأما الذي ثبت وظهر فهو: الإمام أحمد رحمه الله، ولعل بعضهم قد اكتفى بموقف الإمام أحمد أنه قام بالحق وأعلنه والناس ينظرون إليه، فقالوا: لعله يسعنا نحن أن ننسحب ما دام أن واحداً هناك قام بالمهمة، ومع ذلك لا يُبَرَّءون، بل أخطئوا والله يغفر لهم.