للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[الحلم]

ومن الأخلاق المهمة أيضاً التي يحتاج إليها الداعية: (الحلم): قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤] هذه طريقة علمنا الله إياها للتخلص من العداوات، أي واحد بينك وبينه عداوة وجفاء، افعل معه ما قال الله تزل منك العداوة: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:٣٤] أي: قابل إساءته بالإحسان، إذا ترك السلام فسلِّم عليه، ضيَّق عليك في المجلس وسِّع له إذا جاء، منعك حقك أعطه حقه، أغلظ لك في الكلام ألن له الكلام، سبَّك أثن عليه.

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:٣٤] ادفع السيئة بالحسنة، فإذا فعلت ذلك صار هذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم أي: أخلص الناس لك، وأقرب الناس إليك، يحبك أكثر من الآخرين.

وليٌ حميم: يناصرك ويعضدك، ويقوم معك في الشدائد، ولي: صار ولياً لك، حميم: قرابة شديدة بينك وبينه.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأسر بحلمه القلوب، ويرغم أنوف أناسٍ تعمدوا الإغلاظ له حتى يصيروا طوع أمره ينزلون عند دعوته، وقد حفلت السيرة النبوية بأمثلة كثيرة، فمن ذلك ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بردٌ نجرانيٌ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه بردائه جذبة شديدة حتى نظرت صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك -لا يوجد: يا رسول الله! أو يا نبي الله! هكذا يا محمد! فقط- فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء) أعطاه الضحك وأعطاه المال، وأظهر له رضاه عنه بضحكه، وأنه ما أخذ في نفسه ولا وجد في نفسه عليه، حتى العبوس مع أنه أقل ما يفعله بعضنا في هذه الحالة، بل إنه على العكس من ذلك ابتسم له، بل ضحك في وجهه، ثم أمر له بعطاء صلى الله عليه وسلم.

وكذلك جاءه زيد بن سعنة -وكان يهودياً- جاء إليه صلى الله عليه وسلم يطلبه ديناً له عليه فأخذ بمجامع قميصه، يهودي جاء إلى مجلس النبي عليه الصلاة والسلام فأخذ بمجامع قميصه وردائه وجذبه، وأغلظ له القول ونظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوجه غليظ، وقال: يا محمد! ألا تقضيني حقي، إنكم يا بني عبد المطلب! قومٌ مطلٌ وشدد له في القول، فنظر إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعيناه تدوران في رأسه كالفلك المستدير، عمر يرى هذا المنظر، قال: يا عدو الله! أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، وتفعل ما أرى، فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم، ثم قال: (أنا وهو يا عمر! كنا أحوج إلى غير هذا منك: أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التقاضي، اذهب به يا عمر! فاقضه حقه وزده عشرين صاعاً من تمرٍ) فكان هذا الموقف سبباً في إسلام هذا الرجل.

ساق ابن حجر رحمه الله القصة في الإصابة وقال عن الإسناد: رجال موثقون، والوليد قد صرح بالتحديث، وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات.

النبي صلى الله عليه وسلم كان من علاماته أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، والداعية معرض للأذى من المدعو لا شك في ذلك، فإذا كان حليماً فبادل المدعو بغلظته حلماً عليه، كان ذلك سبباً في أسر قلب المدعو ودخول الدعوة، وإيتاء الدعوة ثمارها مع هذا الرجل.

خرج زين العابدين بن علي بن الحسين رضي الله عنهم إلى المسجد، فسبه رجلٌ في الطريق، فقصده غلمان زين العابدين ليضربوه ويؤدبوه فنهاهم، وقال لهم: كفوا أيديكم عنه، ثم التفت إلى ذلك الرجل، وقال: يا هذا! أنا أكثر مما تقول، وما لا تعرفه عني أكثر مما عرفته، فإن كان لك حاجة في ذكره -يعني ذكر معايبي- ذكرته لك، فخجل الرجل واستحيا، فخلع زين العابدين قميصه له، وأمر له بألف درهم، فانصرف الرجل وهو يقول: أشهد أن هذا ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.