وقد صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على اتهام كفار قريش له بالتكذيب:{وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}[ص:٤]{إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}[الفرقان:٤]{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}[الشورى:٢٤] يقولون هذا من جهة في مناسبات كثيرة، ومواقف متعددة، وهم في مناسبة أخرى وفي موقف آخر يعلمون ويعترفون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بكذاب.
وفي صحيح البخاري لما سأل هرقل أبا سفيان في بداية مقابلته له، قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فهذا هرقل جاءته لحظات من التجرد والإنصاف، ولقد هم أن يدخل هذا الدين لولا جشع الملك وحب الرئاسة، وخوفه من زوال سلطانه، فرجع إلى الكفر، ولكنه قد رأى الحق بأم عينيه.
قال أبو سفيان: لا.
ثم قال له في آخر مقابلته: وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، وأعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله؛ أي: أنت تقول أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما عهدت منه الكذب على الناس قبل البعثة، فعلمتُ أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ثم يكذب على الله، والكذب على الله أصعب وأشد من الكذب على الناس، فعلم أنه صادق.
ولقد تولى القرآن الرد على هذه المزاعم فقال:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}[هود:١٣] أي: إذا زعمتم أنه كذاب فهاتوا عشر سور مثل سور القرآن: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}[هود:١٣] لكي تألفوا هذه السور؛ من سائر عظماء الشعراء وأهل النثر والبلاغة:{وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[هود:١٣].
ثم تنزل القرآن في الرد عليهم إلى ما هو أدنى من ذلك، فقال الله عزوجل:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}[يونس:٣٨] عظم التحدي ونقص المقدار، فظهر التحدي أعظم:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِه}[يونس:٣٨] فعجزوا، ولما حاول الكذابون أن يأتوا بسورة واحدة مثل سور القرآن؛ أتوا بأشياء مضحكة ليس هذا مجال سردها:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ}[هود:٣٥]، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ}[السجدة:٣].
ويسري القرآن عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويثبت الله به قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ}[الأنعام:٣٤].
واليوم عندما يقف الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أمام الناس، ويدعوهم إلى الله، ويبين لهم أحكام الدين؛ ويبين لهم الحلال والحرام، يقولون له: أنت كذاب، لا يمكن أن يكون في القرآن كذا، لا يمكن أن يكون في السنة كذا، لا يمكن أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكذا، هذا الذي تدعون إليه ليس بدين، أنت تكذب على الدين، أنت جئت بدين جديد، ليس هذا الدين الذي نعرفه، لقد رأينا الدين من آبائنا وأجدادنا، ولقد رأينا الدين سنين عديدة ما رأينا فيه مثل هذا الذي تدعو إليه، فيتهمونه بالكذب على الشريعة، وهم قد أتوا من قبل جهلهم؛ فلجهلهم رموه بالكذب، وأتوا من قبل تقليدهم لآبائهم وأجدادهم، وعدم اتباع الحق، وأتوا من اتباع أهوائهم؛ لأنك عندما تخبرهم بالحق الذي يخالف أهوائهم؛ إذا كان الحق واضحاً يقولون: أنت كذاب فعليك أن تصبر كما صبر رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم.