ومن الأمور المعينة على الحفظ: الجهر ورفع الصوت بالقراءة فيما يراد حفظه؛ لأن الجهر بالقراءة يجعل حاسة السمع مشتركة في الحفظ مع حاسة البصر، وإن كان الرجل أعمى فإن حفظه يكون شديداً؛ لأجل أن منفذ السمع إلى القلب أقوى وأشد من منفذ البصر، ولذلك قلنا: العرب كانوا يحفظون الخطبة الطويلة والأبيات الكثيرة من أول مرة، ما كانوا يقرءون ولا يكتبون.
وهكذا تلقَّى معظم الصحابة الأحاديث، تلقوها وحفظوها بالسماع، فالسماع مهم جداً، قال الزبير بن بكار: دخل علي أبي وأنا أروي في دفتر ولا أجهر -أروي فيما بيني وبين نفسي- فقال: إنما لك من روايتك هذه ما أدى بصرك إلى قلبك.
فإذا أردت الرواية فانظر إليها واجهر بها، فإنه يكون لك ما أدى بصرك إلى قلبك وما أدى سمعك إلى قلبك.
وهم يقولون الآن: إنه كلما اشتركت حواس أكثر في الحفظ كان الحفظ أكثر، وهذه مسألة يختلف فيها الناس؛ بعض الناس لا يحفظ إلا إذا رفع صوته، وبعض الناس يكون عنده الحفظ أحسن إذا كان يقرأ بصمت وينظر، فينطبع في ذهنه، حتى إن بعض الحُفاظ كان يضع يده على صفحة إذا أراد أن يحفظ الصفحة التي تليها، حتى لا تختلط عليه السطور.
وينبغي للدارس أن يرفع صوته في درسه حتى يُسمع نفسه، فإن ما سمعته الأذن يرسخ في القلب، ولهذا كان الإنسان أوعى لما يسمعه، وعن أبي حامد أنه كان يقول لأصحابه: إذا درستم فارفعوا أصواتكم فإنه أثبت للحفظ وأذهب للنوم، وكان يقول: القراءة الخفية للفهم -القراءة الخفية إذا أردت أن تتدبر وتفكر وتنظر- والرفيعة -التي فيها رفع صوت- للحفظ.