[معالم في تربية الطفل المسلم]
فلنطف وإياكم في جولة سريعة في معالم تربية الطفل المسلم مع رجل من أفذاذ هذه الأمة، وقادتها العلميين الفكريين، لنعلم إلى أي مرحلة كان يوجد عند المسلمين اهتمام بالطفل في كل جانب من الجوانب، لنطف مع ابن القيم رحمه الله، وهو يعقد لنا فصلاً عظيماً بعنوان: (فصول نافعة في تربية الأطفال تحمد عواقبها عند الكبر) ولن يكون الأمر مقتصراً على التربية الدينية والعلمية والشرعية، وإنما سيكون كلامه رحمه الله عاماً شاملاً لجميع النواحي في تربية الطفل، لنعلم أنه يوجد عندنا في شرعنا، وفي كلام علمائنا نظريات تربوية عجيبة واهتمام بالغ.
قال رحمه الله تعالى: ينبغي أن يكون رضاع المولود من أمه، وأن يحرص على ذلك، وإذا أريد إرضاعه من غير أمه فإنه يؤخر حتى يأخذ ذلك اللبِّأ، وتلك المواد المحصنة الموجودة في لبن الأم، وينبغي أن يمنع من حملهم والتطواف بهم حتى يأتي عليهم ثلاثة أشهر فصاعداً، لقرب عهدهم ببطون الأمهات وضعف أبدانهم، وينبغي أن يقتصر بهم على اللبن وحده إلى نبات أسنانهم؛ لضعف معدتهم وقوتهم الهاضمة للطعام، فإذا نبتت أسنانه قويت معدته، وتغذى بالطعام، فإن الله سبحانه أخر إنباتها إلى وقت حاجته إلى الطعام لحكمته ولطفه، ورحمة منه بالأم وحلمة ثدييها، فلا يعضها الولد بأسنانه.
وينبغي تدريجهم في الغذاء، فأول ما يطعمونه من الغذاء اللبن، ثم يطعمونهم الخبز المنقوع في الماء، واللبن والحليب، ثم بعد ذلك الطبيخ والأمراق الخالية من اللحم، ثم بعد ذلك ما لطف جداً من اللحم، بعد إحكام مضغه أو رضه رضاً ناعماً، فإذا قربوا من وقت التكلم، وأريد تسهيل الكلام عليهم، فليدلك ألسنتهم بالعسل، فإذا كان وقت نطقهم فليلقنوا لا إله إلا الله محمداً رسول الله، وليكن أول ما يقرع مسامعهم معرفة الله سبحانه وتوحيده، وأنه عز وجل فوق عرشه ينظر إليهم، ويسمع كلامهم، وهو معهم أينما كانوا.
فإذا حضر وقت نبات الأسنان فينبغي أن تدلك اللثة كل يوم بالزبد والسمن، وأن يحذر عليهم كل الحذر وقت نباتها إلى حين تكاملها وقوتها من الأشياء الصلبة، ويُمنعون منها كل المنع، حتى لا تتعرض الأسنان للفساد والتعويج والخلل.
ولا ينبغي أن يشق على الأبوين بكاء الطفل وصراخه، ولاسيما لشربة اللبن إذا جاع، فإنه ينتفع بذلك البكاء انتفاعاً عظيماً، فهو يوسع أمعاءه، ويفسح صدره، ويحمي مزاجه، ويثير حرارته، ويحرك الطبيعة لدفع ما فيه من الفضول.
وينبغي ألا يهمل أمر قماطه ورباطه ولو شق عليه، إلى أن يصلب بدنه، وتقوى أعضاؤه، ويجلس على الأرض، فحينئذ يمرن ويدرب على الحركة والقيام قليلاً قليلاً.
وينبغي أن يوقى الطفل كل أمر يفزعه من الأصوات الشديدة الشنيعة، والمناظر الفظيعة، والحركات المزعجة، فإن ذلك ربما أدى إلى فساد قوته العاقلة لضعفها، فلا ينتفع بها بعد كبره، فإذا عرض له عارض من أمر مفزع أو مخيف فينبغي المبادرة إلى تلافيه بضده من إيناسه وإنسائه إياه، وأن يلقم الثدي في الحال، ويسارع إلى رضاعه حتى تزول تلك الرهبة وذلك الخوف.
وكذلك ينبغي التلطف في تدبير أمره عند نبات أسنانه، وألا يملأ بطنه بالطعام، وإذا انطلق بطنه خير من أن يمسك، وكذلك فإنه يلين بالعسل المطبوخ، ويعمل منه معجون يطعمه الولد.
وأما وقت الفطام فقال الله عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:٢٣٣] الآية، فبين أن تمام الرضاع الحولين، وأن الفطام لا بد أن يكون عن تراضٍ وتشاور بين الأبوين، وأنه يجوز للأم أن ترضع بعد الحولين لا بأس بذلك، ولكن يكتمل الرضاع في الحولين، وينبغي للمرضع إذا أرادت فطامه أن تفطمه على التدريج، ولا تفاجئه بالفطام وهلة واحدة بل تعوده إياه.
ومن سوء التدبير للأطفال أن يمكنوا من الامتلاء من الطعام، وكثرة الأكل والشرب، فإن ذلك يؤذيهم، وإن الصبي إذا شبع وامتلأ يكثر نومه ويسترخي، ويعرض له نفخة في بطنه ورياح غليظة.
ومما ينبغي أن يحذر: أن يحمل الطفل على المشي قبل وقته؛ لما يعرض في أرجلهم بسبب ذلك من الانتقال والاعوجاج بسبب ضعفها، وعدم استعدادها للمشي منذ هذه السن المبكرة.
ويجوز وطء الأم عند الرضاع، فإذا حملت فالأفضل أن تترك الرضاع؛ لأنها في حملها لا يكون لبنها مثل الأول في فائدته، وربما كان فيه شيء من الضرر، فأرشدهم الشارع استحباباً وليس إيجاباً إلى ترك إرضاعه في ذلك الوقت.
كل هذه الفوائد الطبية التي ذكرها رحمه الله تعالى مما ينصح به الأطباء في هذا الزمان، قال ذلك قبل مئات السنين مما يدل على أن العناية الطبية كانت موجودة عند علمائنا، وكانت موجودة في المجتمعات الإسلامية، وكانوا يحرصون عليها، ولكن الأهم من ذلك كله الحرص على تأديبه وتربيته.
يقول ابن القيم رحمه الله: فينبغي أن يعوده المربي في صغره على حسن الخلق، وتجنب الغضب واللجاج، والعجلة والخفة، والطيش والحدة والجشع؛ لأنه إذا تعود ذلك صار عادة لا يستطيع الخلاص منها إذا كبر.
وينبغي أن يجنب الصبي مجالس اللهو الباطل والغناء، وسماع الفحش والبدع، ومنطق السوء؛ لأنه إذا علق بسمعه صعب عليه أن يتخلص منه ويفارقه عند الكبر.
وينبغي لوليه أن يجنبه الأخذ من غيره -لا يعود ولده على الأخذ من أيدي الناس- غاية التجنب، فإنه متى اعتاد ذلك صار طبيعة، ونشأ على أن يأخذ ولا يعطي، ويعود البذل والعطاء والإعطاء، فإذا أراد أن يعطي شيئاً أعطاه على يده ليذوق حلاوة الإعطاء، ويجنبه الكذب والخيانة أكثر مما يجنبه السم، ويجنبه الكسل والبطالة والدعة والراحة، بل يحمله على العمل والشغل والجد والتعب، ويجنبه فضول الطعام والكلام والمنام، ومخالطة الأنام؛ لأن ذلك مما يفسد عليه حياته وخلقه.
وكذلك فإنه يجنبه تناول ما يزيل عقله من مسكر وغيره، أو عِشْرة من يخشى فساده أو كلامه له ونحو ذلك من رفقاء السوء، ويجنبه لبس الحرير فإنه مفسد له، ومخالف لطبيعته، كما يخلفه اللواط وشرب الخمر والسرقة والكذب، ولذلك حرم على ذكور هذه الأمة والصبيان داخلون فيهم، فإنه ولو كان غير مكلف فإنه مستعد للتكليف، ولو أنه تعود لبس الذهب والحرير في أول أمره فإن ذلك مما يفسده منذ نعومة أظفاره.
قال: ولهذا لا يُمَكَّن من الصلاة بغير وضوء، ولا من الصلاة عرياناً ونجساًً، ولا من شرب الخمر والقمار واللواط، مع أنه غير مكلف، لكنه لا يمكن من ذلك.
وعند الغربيين شيء هو: مراعاة ميول الأطفال، فماذا يقول ابن القيم رحمه الله؟ يقول: فإذا صار له حسن فهم صحيح، وإدراك جيد، وحفظ واع، فينبغي تهيئته للعلم لينقشه في لوحة قلبه مادام خالياً، فإنه يستقر ويستمر ويزكو، فإذا رآه -أي: رأى ميول الولد- خلاف القراءة والحفظ والمنهج العلمي، والجلوس في الحِلَق، والإقبال على الحفظ -فماذا يفعل؟ -.
فإذا رآه بخلاف ذلك من كل وجه، وهو مستعد للفروسية وأسبابها؛ من الركوب والرمي واللعب بالرمح، مكَّنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها، فإنه أنفع له وللمسلمين، وإن رآه بخلاف ذلك -لا علم ولا فروسية- وأنه لم يخلق لذلك ورأى عينه منفتحة إلى صنعة من الصنائع مستعداً لها قابلاً لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس فليمكنه منها.
هذا كله بعد تعليمه ما يحتاج إليه في دينه، فقضية مراعاة الميول والمواهب ليست خاصة بالغربيين، ولا اكتشفوها هم، فهي موجودة عندنا، والكلام في تحفة المودود المكتوب منذ أكثر من ستمائة سنة.
فإذاً يوجد عندنا، وفي شرعنا، وكلام علمائنا ما نحتاج إليه، ولو فرضنا أن الغربيين عندهم إيجابيات فنحن أولى بها نأخذها منهم، وتبقى لهم الرذائل، نجنب ذلك أولادنا وصبياننا.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من القائمين بالمسئوليات، الحريصين على الأمانات، ونسأله تعالى أن يخفف حسابنا، وأن يسدد خطواتنا، وأن يعيننا على تربية أولادنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.