من الأخلاق التي نتعلمها من المواقف التربوية في الأخلاق:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت:٣٤].
كان ابن جرير الطبري -رحمه الله- يجلس في حلقة داود الظاهري، وابن جرير -رحمه الله- رزق فقهاً وفطنةً، فلاحظ بعض الأشياء الغريبة في منهج داود، فكان يناقشه في هذه المسائل، حتى ضاق أحد أصحاب داود الظاهري فأفحش الكلام في الطبري، وكلمه كلاماً فظاً غليظاً، فلم يفعل الطبري شيئاً، قام من المجلس وبدأ في تصنيف كتاب في مناقشة مذهب داود الظاهري، وأخرج منه مائة ورقة، فلما مات داود قطع الطبري كتابه.
فقام محمد بن داود للرد على أبي جعفر، وتعسف عليه، وصنف مؤلفاً فيه سب للطبري، إلى أن جمعتهم المصادفة في منزل، فلما عرف الطبري أن هذا الذي ألّف فيه كتاباً يذمه رحب به، وأخذ يثني عليه ويمدحه ويصفه بالصفات الكريمة، فماذا حصل؟ لما رجع محمد بن داود إلى منزله قطع الكتاب وأتلفه لحسن أخلاق ابن جرير -رحمه الله- امتص الموقف، وسجلت لـ ابن جرير ضمن حسناته، وهي مكتوبة في سيرة ابن جرير إلى الآن رحمه الله تعالى.
وجاء ذات مرة رجل معتوه إلى ابن حجر -رحمه الله- وهو في إحدى الحِلق في أحد الدروس، وبدأ يسب الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بالألفاظ القبيحة، فقال الإمام: نقوم إلى أن يفرغ أو يروح، ونهض، هذا هو كل الذي فعله ابن حجر، ما قال لطلابه: خذوه وارموه في الشارع، بل قال: نقف حتى ينتهي هذا السفيه، وقام ودخل إلى الغرفة ورد بابها يسيراً، فترك المعتوه المكان وانصرف، فظن ابن حجر أن المعتوه لن يعود، ففتح باب الغرفة ووقف فإذا بالمعتوه قد أقبل من باب آخر، وزاد على ما كان عليه، فقال ابن حجر لتلاميذه: ما بقي إلا الانصراف، وأغلق الباب ولم يمكن أحداً من التعرض له، وسمع أن الوالي قد أخذ هذا وحبسه فتوسط له وأطلقه.
إن الموقف التربوي الذي حصل أهم من إكمال الدرس في نظره؛ لأن هذا الموقف لا يقل أهمية وفائدة عن إكمال الدرس.
واجتاز ابن جحر -رحمه الله- يوماً في طائفة من جماعته بباب جامع الغمري، فبدت من شخصٍ يوصف بالجذب -إنه مجذوب- كلمات يقول لـ ابن حجر وهو ماش: عمائم كالأبراج، وأكمام كالأخراج، والعلم عند الله.
فأراد بعض طلاب ابن حجر -رحمه الله- أن يعزروه، فامتنع وقال: دعوه، هذا مجذوب يترك له حاله.
المسألة تحتاج إلى حلم وامتصاص المواقف، وكثير من المواقف التي فيها مثل هذه الأشياء تحتاج إلى حلم.