للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إبراهيم يكسر الأصنام]

انتهز إبراهيم فرصة خروج قومه في عيدٍ لهم إلى خارج البلد على عادةٍ منهم وتقليد من التقاليد، بعد أن أقام عليهم الحجة: {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:٥٤ - ٥٨] لما خرجوا ادعى إبراهيم المرض: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٨ - ٨٩].

وذلك لكي يعقد لهم هذه الخطة التي تبين لهم في النهاية سفه الرأي وضلالة، فلما خرجوا دخل بيت الأصنام وراغ عليهم ضرباً باليمين، بفأس في يديه راح يكسرها حتى جعلها جذاذاً حطاماً مكسرة كلها إلا كبيراً لهم وضع الفأس في يده إشارة إلى أنه غار أن تعبد معه هذه الصغار، أراد أن ينبههم أيضاً فكيف بالله الواحد القهار؟ ترك الكبير والفأس معلقة في يد الكبير، كأنه يقول لهم: إنه غار من أن تعبد معه هذه الصغار، ليقول لهم بطريقة غير مباشرة: فكيف بالواحد القهار تعبدون معه هذه الأحجار؟! فرجع القوم من عيدهم، ويا لهول ما رأوا! لأن أعظم شيء عندهم عبادة هذه الأصنام، فكان الهم الوحيد لهم: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٥٩] وبدأ التحقيق والبحث والسؤال وجمع الأقوال واتجهت الأنظار إلى إبراهيم الخليل: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:٦٠] كان فتىً عندما فعل ذلك، كان في مقتبل العمر: {سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء:٦٠ - ٦١].

هذه المحاكمة والنهاية للإجرام الذي فعله، بدأت المحاكمة العلنية وتقاطر الناس من كل مكان وبدأ التحقيق مع هذا الذي فعل: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:٦٢] كان بإمكانه بأن يقول من البداية: أنا فعلتها ولا يخشى في الله لومة لائم، لكن عنده أمل أن يقتنع القوم: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:٦٣] قيل: هي تورية، وقيل: إن كان ينطق فهو الذي فعله، استخدم إبراهيم عليه السلام هذا الأسلوب لإقناع قومه: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:٦٣].

وهنا كأن القوم قد أسقط في أيديهم: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} [الأنبياء:٦٤ - ٦٥] لم يعلوا جواباً ولم ينطقوا بكلمة؛ لأن الحجة قوية فعلاً، هل فعله هذا؟ إذا كان لم يفعله هذا وفعله إبراهيم، فلماذا نعبد هذا إذاً وهو لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، نعبد أصناماًَ لا تستطيع أن تدفع عن نفسها؟! وإن كان فعله هذا غيرة على نفسه من الصغار، فكيف إذاً بالواحد القهار؟! فـ {نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} [الأنبياء:٦٥] لقد ألجمتهم الحجة والكلمة البينة القاطعة، وهكذا يجب أن تكون الدعوة بلسان واضح صريح وحجة بينة دامغة تسكت المعاند وتلقمه حجراً.

الجواب

=٦٠٠٢٥٤٨> قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:٦٦ - ٦٧].

ولكن الذي يبتلى به كثير من الناس هو العناد والمكابرة رغم وضوح الحق: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:٦٨] وانتقموا من أجلها: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:٦٨] جمعوا الحطب وأججوا النيران، وألقوا إبراهيم فيها جزاءً أمام الناس، ولكن الذي خلق النار قادر أن يسلب منها خاصية الإحراق: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:٦٩].

فكانت برداً قلع منها الحر، وسلاماً على إبراهيم: لا يؤذيه لا حرها ولا بردها: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:٧٠] وهكذا ينجي الله أولياءه وعباده الصالحين من الشرور إذا هم توكلوا عليه وأنابوا إليه، وهذا درسٌ عظيمٌ ينبغي أن يتأمل فيه كل إنسان يقوم لله بالحجة.

إن إبراهيم لما ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا أطفأت النار عنه غير الوزغ، فإنها كانت تنفخ عليه، فلذلك كان فيها أجر لمن قتلها، من قتل وزغاً من أول ضربة كان له مائة حسنة، والثانية خمسون حسنة، كله تذكير بعهد إبراهيم، وأمر إبراهيم، وكان لـ عائشة رمح تقتل به الأوزاغ.

قال ابن عباس: [كان قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل] حسبي الله: يكفيني، ونعم الوكيل، ولذلك نجاه الله من النار، إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب ولأولي الأبصار.

فاعقلوا واتعظوا يا أيها المسلمون! من سيرة هذا النبي الجليل، أحبوه من قلوبكم؛ لما قام لله بالحجة والحق، أَحِبُّوه؛ لأنه كان إماماً وقدوة، أَحِبُّوه؛ لأنه كان موحداً لا يخاف في الله لومة لائم.

اللهم اجعلنا على ملة إبراهيم، وارزقنا اتباع التوحيد والدين القويم إنك أنت الغفور الرحيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.