[باب وحر الصدر]
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إنه ينبغي الكف عن أعراض المسلمين، وإن من أعظم الأشياء التي تسبب وحر الصدر الغيبة والنميمة، وهما أمران عظيمان، فكم صار بين المسلمين أحقاد بسببهما، وكم جرت من مآسي في انفصام عرى الأخوة بين أطرافهما، ولذلك كان حرياً بالمسلم أن يمسك لسانه عن الفري في أعراض المسلمين، وكم من رجلٍ متورعٍ عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، وربما تورع بعضهم عن أكل بعض اللحم المستورد وهو لا يزال يأكل لحم إخوانه: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:١٢].
وكذلك لنتوجه عن تتبع العثرات وتسقط العيوب، فإن الاشتغال بعيوب النفس يشغل عن عيوب الغير، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: "كان هنا -يعني: بـ المدينة - أناسٌ لهم معايب، فسكتوا عن عيوب الناس، فنسيت عيوبهم، وكانت أناسٌ لهم معايب، فتكلموا في عيوب الناس فبقيت عيوبهم وذكرت من بعدهم" ثم إن النفس الأصل فيها الجهل والظلم والتعدي على الخلق، فلذلك يرى الإنسان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه) فهو يبصر أخطاء الناس وإن دقت، وينسى أخطاءه هو.
وكذلك ينبغي على الإنسان ليسلم صدره لأخيه أن يترك المراء والجدال والخصومة، فإن من أكثر ما يحدث الحقد والضغائن بين الإخوة: المراء، والجدل، والنقاش العتيل، وكذلك فإنه ينبغي الحذر من التعصب، فكم كان التعصب سبباً في إثارة الأحقاد والضغائن، قال يوسف الصدفي رحمه الله: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة واحدة؟ إذاً الخلاف في الرأي لا يفسد الود بين المسلمين، لا يفسد للود قضية.
ثم إن التعصب لغير الحق، لمذهبٍ، أو قبيلة، أو حزبٍ، أو جماعة، أو شخص تقليداً أو حمية من أعظم الأسباب التي تورث الضغائن بين المسلمين، قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن نصب شخصاً كائناً من كان، فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل، فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً.
فكان التعصب سبباً عظيماً لوقوع العداوة والبغضاء بين المسلمين.
وقال الشيخ ابن القيم: وإنما كثر الاختلاف وتفاقم أمره بسبب التقليد وأهله، وهم الذين فرقوا الدين، وصنفوا أهله شيعاً كل فرقة تنصب متبوعها وتدعو إليه، وتذم من خالفها ولا يرون العمل بقولهم، حتى كأنهم ملة أخرى سواهم يدأبون ويكدحون في الرد عليهم، ويقولون: كتبهم وكتبنا، وأئمتهم وأئمتنا، ومذهبهم ومذهبنا، هذا والنبي واحد، والدين واحد، والرب واحد، ولذلك كان لا بد من ترك هذا التعصب، والحوار بالحسنى، والمباحثة في مسائل العلم بصدر متسع، وأن ينشد الجميع صحة الدليل والفهم السليم.
عباد الله: إن التنافس في الدنيا من الأشياء التي توغر الصدور، لماذا حرمت الشريعة بيع المسلم على المسلم، وشراء المسلم على المسلم، وسوم المسلم على المسلم؟ حتى في حال المساومة لا يجوز أن تدخل بينه وبينه، وخطبة المسلم على خطبة أخيه، لأن الشريعة تريد المحافظة على صدور المسلمين نقية، وقال عليه الصلاة والسلام: (أوغير ذلك؟ تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون) قالها لما بشرهم بما يفتح عليهم من فارس والروم.
وكذلك فإن حب الرئاسة هو من أعظم أسباب الحقد على الإخوان، قال الفضيل رحمه الله: ما من أحدٍ أحب الرئاسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير.
ثم إن هناك بعض الأمور التي يتساهل فيها بعض الناس، ولها صلة وثيقة بقضية اختلاف القلوب، مثل اختلاف الصفوف للصلاة، وعدم تسوية الصفوف، وسد الفرج، والتقدم والتأخر، وعدم الإتمام من الجانبين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم).
وينبغي على المسلم أن يترك كل ما يكون سبباً للعداوة كالمزاح الثقيل، والنجوى بين اثنين التي تحزن الثالث، وليكن الشعار الدعاء دائماً وأبداً، بأن يجعل الله قلبه سليماً، قال الله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:١٠].
عباد الله: إن الهدية تذهب وحر الصدر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا) فلو كان بين إنسان وأخيه شيءٌ فأهدى له هدية، فلا شك أن مثل هذه الهدية كفيلة في الغالب بإذهاب ما في القلب، فهذه من العلاجات الشرعية.
عباد الله: إن بعض الناس لا يفرق بين صاحب القلب السليم الطيب، وبين الإنسان المغفل الساذج، ويظن أنه عندما يقول: فلان قلبه طيب أي: مغفل وساذج، وأن الدعوة إلى أن يكون الشخص طيب القلب سليم القلب، يعني: أن يكون مغفلاً ساذجاً، كما يقولون: على نياته، فما هو الفرق بين المغفل والساذج، وبين الإنسان سليم الصدر طيب القلب الذي ننشده ونتحدث عنه؟ قال شيخ الإسلام رحمه الله: القلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر، إذاً ليس أن يكون مغفلاً أمراً مطلوباً، أن يكون الإنسان مغفلاً لا يدري عن طرق أعداء الله، ولا يدري عن وسائل المجرمين؛ المجرمون لهم وسائل في اصطياد الناس، والمخدرات، وأوكار الرذيلة، وجر الناس إلى الفساد، ومن المهم بالذات في هذا الوقت، وفي هذا الزمان أن يكون المسلم واعياً منتبهاً، فكثير من الناس قد جروا إلى فاحشة، وجروا إلى مسكرات ومخدرات، وجروا إلى محرمات، بسبب الغفلة والسذاجة، مغفل لا يدري عن طرق أهل الشر، وليس هذا هو سليم الصدر طيب القلب الذي ننشده، نعم.
ربما يكون حاله في الإثم مختلفاً عن حال القاصد الذي يعلم الشر وينجر إليه، ولكن على المسلم أن يكون نبيهاً غير مغفلاً، قال ابن القيم رحمه الله معقباً على كلام شيخ الإسلام الذي قال فيه: فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به.
عبارة ذهبية، قال ابن القيم رحمه الله: الفرق بين سلامة القلب، وبين أن يكون أبله مغفل: أن سلامة القلب تكون مع عدم إرادة الشر بعد معرفته، فيسلم قلبه من إرادته وقصده، لا من معرفته والعلم به، هذا بخلاف البله والغفلة فإنها جهل وقلة معرفة، وهذا نقص لا يحمد به صاحبه، فالأمر كما قال عمر رضي الله عنه: [لست بخب ولا يخدعنا الخب، وكان عمر أعقل من أن يُخدع، وأورع من أن يَخدع] قال عمر رضي الله عنه: لست بخبٍ يعني: لست بلئيم ولا مخادع، لست بخبٍ ولكن في نفس الوقت الذي لست بخبٍ قال عمر: ولا يخدعنا الخب، وكان عمر أعقل من أن يخدع وأورع من أن يخدع، فهذا الذي نريده، نريد مسلماً يعرف طرق الشر، ويعرف أهل الشر وهو نبيه فطن، ولكنه لا يريد شراً لأحد، ولا يخدع أحداً، فإذا وصل المسلم ووصل المسلمون إلى هذا الحد، فهذا ما نتمناه.
فينبغي التفرقة إذاً بين المغفل الأبله، وبين طيب القلب الممدوح شرعاً.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتفقهين لأهل الشر وكيدهم، وأن يباعد عنا كيد الفجار وشر الأشرار إنه سميعٌ مجيب.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين، وأهلك أعداء الدين إنك على كل شيء قدير، اللهم أخرج اليهود من بيت المقدس أذلة صاغرين، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، واجعلهم في ديارهم خائفين مذعورين، واغفر لمن قتل في سبيلك يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ولآبائنا ولمن مات من المسلمين على التوحيد يا رب العالمين، واجعلنا ممن يلقاك بقلبٍ سليم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.