للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حال السلف مع الوقت]

لقد ضرب سلفنا رحمهم الله تعالى أمثلة عجيبة في الاستفادة من أوقاتهم، فهذا أبو نعيم الأصفهاني المتوفى سنة [٤٣٠هـ] كان حفاظ الدنيا قد اجتمعوا عنده، وكل يوم نوبة واحد منهم، يقرأ ما يريده إلى قبيل الظهر على الشيخ، فإذا قام إلى داره ربما يُقرأ عليه في الطريق جزءٌ وهو لا يضجر.

وكان سليم الرازي شافعياً فنزل يوماً إلى داره ورجع فقال: لقد قرأت جزءاً في طريقي.

وقال الحافظ الذهبي رحمه الله في ترجمة الخطيب البغدادي كان الخطيب يمشي وفي يده جزء يطالعه.

وكان ابن عساكر رحمه الله كما يقول عنه ابنه: لم يشتغل منذ أربعين سنة إلا بالجمع والتسمية حتى في نزهته وخلواته، يصطحب معه كتب العلم والمصحف يقرأ ويحفظ.

وكانوا يحرصون على استغلال الوقت في عمل أكثر من شيء في نفس الوقت، فقد كان بعضهم إذا حفي عليه القلم واحتاج إلى بريه يحرك شفتيه بذكر الله وهو يصلح القلم، أو يردد مسائل يحفظها لئلا يمضي عليه الزمان وهو فارغ ولا دقيقة.

وكان أبو الوفاء علي بن عقيل رحمه الله يقول: إنني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري؛ حتى إذا تعطل لساني عن المذاكرة وتعطل بصري عن المطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منصرف، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره.

أي: هو الآن لا يجد كلاماً ولا شيئاً يقرؤه، فيأخذ راحة وفي أثنائها يشغل فكره.

يقول ابن القيم رحمه الله: وأعرف من أصابه مرض من صداع وحمى وكان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة؛ قرأ فيها، فإذا غلب؛ وضعه، انظر حتى حال المرض، إذا وجد خفة؛ فتح الكتاب وقرأ، وإذا اشتد عليه أرجع الكتاب عند الوسادة.

وأنتم لو نظرتم إلى حال علمائنا في هذا العصر؛ لوجدتم من استغلالهم لأوقاتهم أموراً عجيبة، فأنت مثلاً عندما تتصل بالشيخ/ ابن عثيمين لتسأله، فإنك تجد أنه يجيب على الهاتف من خلال المكبر ولا يرفع السماعة، وأنت تسأله تسمع صوت الأوراق وهي تقلب، فهو يتكلم ويقرأ ويجيب ويراجع في هذا الوقت، وتجد أيضاً أنهم مع محافظتهم على أوقاتهم يحددون أوقاتاً معينة، فهذا الوقت للقراءة، وهذا الوقت للتدريس، وهذا الوقت للإجابة على الهاتف، وهذا الوقت للنوم، وهذا الوقت للذهاب إلى العمل وهكذا.

وعندما تتأمل إلى حياة شيخنا/ عبد العزيز بن باز رحمه الله، هذا الرجل الذي فقد بصره وله من العمر تسعة عشر عاماً، لوجدت في استغلاله لوقته أمراً عجيباً، فإنه يسأل ويناقش حتى على الطعام، بل وحتى عند المغسلة وهو يغسل يديه وفي المجلس وفي الطريق إلى المسجد وبعد الخروج منه، حتى إنه ربما أعاد ذكراً فاته لسؤال أجاب عليه.

كان في ذهني مسألة وهي: إذا انتهى الأذان؛ وفاتني متابعته، فماذا أفعل؟ هل فات وقت الترديد أم لم يفت؟ هل أعيد الأذان بعد ما انتهى مع أني ما انتبهت من البداية؟ فكانت المسألة في نفسي ليس عندي فيها جواب، حتى حضرت مرة بجانب الشيخ حفظه الله وهو يجيب على مكالمة، وأثناء الكلام أذن المؤذن، وقريباً من انتهاء المؤذن؛ انتهت المكالمة، فانتبه الشيخ فجلس يردد الأذان من أوله حتى وصل إلى الموضع الذي وقف عنده المؤذن، ثم سألته، فكان هذا العمل جواباً على سؤالي، وهو أن المؤذن لو أذن وانتهى وأنت الآن انتبهت، فإنك تردد الأذان، أو انتبهت في حي على الصلاة؛ فإنك تأتي بها من أولها ثم تقف حيث وصل وتردد معه.

وكذلك إذا تأملت في حاله مثلاً وهم يسألونه في الحلقة وبعد الحلقة، حتى إنه لو ركب في سيارته، فإنهم لا يزالون يسألونه والسيارة تتحرك، بل ربما أنه قد أركب معه السائل في السيارة، فيجيب على سؤاله، ويعرض عليه كاتبه الأوراق والمسائل وتقرأ عليه المعاملات والفتاوي في السيارة، وربما سمع شيئاً وهو على الغداء، ويذكر الله حتى بين لقمتين، وشاهدت من علمائنا من يسأل حتى وهو يبحث عن نعاله بين نعال الناس.

وكان الشيخ/ محمد بن صالح بن عثيمين في مرحلة الطلب يدرس على شيخه عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله كان وقد يكون الشيخ/ عبد الرحمن مدعو لوليمة أو دعوة فيذهب للدعوة، فيماشيه الشيخ/ ابن عثيمين في الطريق حتى يصل إلى مكان الدعوة ثم قد يدخل معه وقد يرجع، ولكنه لو رجع فقد استفاد استفادة عظيمة.

وهؤلاء العلماء محافظون على وقتهم جداً، ومنهم علامة العصر في الحديث الشيخ/ الألباني رحمه الله، فإن بعض الناس قد يقول عن بعض المشايخ وهم يحددون أوقاتهم، يقول: الشيخ ناشف، الشيخ لا يعطينا وجهاً، وفي الحقيقة أن الشيخ يحافظ على وقته، وإلا لو استمر يتكلم مع الناس لذهبت عليه أمور كثيرة.