[من شروط النصيحة: مراعاة الأسلوب الحسن]
النصيحة من أهم ما فيها هو الأسلوب، وقد ركز القرآن الكريم على الأسلوب في النصيحة تركيزاً كبيراً، فقال الله تعالى لموسى وهارون عندما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٤] فما هي صفة القول؟ ما هي صفة النصيحة التي أمر الله موسى وهارون أن يقدمانها لفرعون؟ {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٤].
والعجيب أن الكثير من المسلمين لا يلتزمون بهذه الصفة القرآنية للنصيحة، في الوقت الذي استفاد منها من أعداء الإسلام، فأنت إذا نظرت -مثلاً- إلى طريقة المبشرين بالدين النصراني المحرف وأسلوبهم، تجد أن الأسلوب يعتمد اعتماداً كبيراً على اللين والعاطفة، واستثارة المكامن الحساسة في النفس المخاطبة، فوصلوا إلى نجاحٍ عظيم بسبب حسن أسلوبهم، فصارت النتيجة إدخال كثير من الناس في النصرانية أو إبعادهم عن الإسلام، يتدسسون إلى المسلمين تدسساً رفيقاً بلين ولطف فيصلون إلى ما يريدون الوصول إليه من الأهداف المدمرة لعقائد المسلمين وأخلاقهم.
نحن ورَّاث العلم النبوي والطريقة المحمدية، نحن الأحق والأجدر باتباع اللين في الأسلوب، وإذا نظرت إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وجدت نصيحته عليه الصلاة والسلام تتصف اتصافاً كاملاً بهذه الصفة، نحن الآن نتكلم تحت عنوان النصيحة بين اللين والشدة، وحديث معاوية بن الحكم السلمي في صحيح مسلم معروف، عندما جاء في الصلاة وتكلم وشمت الرجل الذي عطس من الصحابة، والصحابة ينظرون إليه شزراً، ويضربون بأكفهم على أفخاذهم يسكتونه، فماذا قال الرجل رضي الله عنه بعدما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم ونصحه؟ قال: (فوالله ما كهرني -أي: ما نهرني- ولا ضربني ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) وهكذا ولذلك هذاالرجل بقيت مؤثرة في نفسه هذه اللمسة النبوية في النصيحة حتى أخبر بها طائفة من الناس.
ومن هنا نعرف مدى نجاح الناصح بأشياء كثيرة: منها: ما هو موقف المنصوح من النصيحة؟ وما هو الأثر الذي تركته النصيحة في نفس المنصوح؟ فهذا الصحابي رضوان الله عليه أثرت نصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه أثراً بالغاً، لذلك يقول الرجل: فوالله ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لهذا الأسلوب الفذ الذي اتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم.
أيضاً قصة الأعرابي الذي بال في المسجد.
أحياناً يضطر الناصح إلى شيء من الشدة، أو يكون الشخص المنصوح يحتاج إلى شيء من الشدة، وإذا ما شددت عليه في القول قد لا يتأثر؛ لأن بعض النفوس يدخل إليها من باب الشدة والتقريع، ومعرفتها تعتمد على الفقه الذي يتكون عند الناصح -الداعية إلى الله عز وجل- من كثرة مخالطته وخبرته بالناس ومعاشرته لهم.
أحياناً تضطر إلى نوع من الشدة؛ كأن تكون النفسية التي أمامك من النوع الذي يتأثر بالشدة، أو يكون الموضوع أو الخطأ الذي حصل خطأً كبيراً لا يمكن للإنسان أن يسكت عنه أو يؤخره، فمثلاً: شخص أمامي يسب الدين ويستهزئ بالإسلام وبصفات الله عز وجل، ويتنقص من الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل أقول له: يا أخي! لو سمحت لو تكرمت؟ لا يمكن؛ لأن الموقف لا يسمح باستخدام اللين، اللين هو الأساس والقاعدة، لكن ليس هو المطرد في جميع الأساليب، وإذا اضطر الإنسان أحياناً إلى استخدام الشدة فإنه من المناسب أن يخلط مع أسلوب الشدة شيئاً من اللين، ويستخدم شيئاً من عبارات التلطيف، والناظر في رسائل الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى كالرسائل الموجودة في تاريخ نجد لـ ابن غنام رحمه الله، يجد فيها استخداماً جيداً لأسلوب اللين مع الشدة، فتجد الشيخ في رسائله أحياناً يشتد على المرسل إليه الخطاب أو النصيحة شدةً بالغة في أمر يتعلق بالشرك، أو الموقف من المشركين والمنافقين، أو الموقف من القبور، أو الموقف من غلاة الصوفية، لكنه لا يلبث أن يتبع تلك الجملة الشديدة بجمل تلطيفية جيدة تخفف من وقع الشدة الوقع السلبي على نفس المنصوح، ولو كان الوقت مناسباً لذكرنا لكم أمثلة، ولعل الوقت يتاح إن شاء الله للكلام على رسائل مؤثرة.
كذلك النصيحة بين اللين والمداهنة، يفهم الناس أحياناً قول الله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:٤٤] فهماً معوجاً خاطئاً، كيف؟ يفهمون أن اللين في الأسلوب، أي: اللين في المضمون يفهمون أن اللطف مع الناس، أي: أنك تميع لهم كثيراً من القضايا الإسلامية التي تنصحهم بها، وهذه فكرة خطيرة تؤدي إلى انزلاقات ومنعطفات تجنح بالداعية عن الصراط المستقيم، إذا فهم هذا الداعية أن قول الله عز وجل مثلاً: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:٤٤] أي: أنه يلين في الحق، بمعنى: أنه إذا سئل عن حكم شرعي -مثلاً- فتجده يفهم أن من اللين أن يميع الحكم ويفهم الناس بأن المسألة فيها سعة وفيها مجال وهي محرمة بالنص الواضح القاطع، فتجده من فهمه المعوج للين ينحرف في عرض الأحكام والمبادئ والتصورات الإسلامية القاطعة، ويعرضها بأسلوب مهزوز، ركيك أسلوب فيه من التميع ما يشوه المنظر، أو ما يشوه نظرة هذا الشخص لهذه الأحكام وهذه التصورات.
وهذه -أيها الإخوة- من المسائل التي تجعل النصيحة قبيحة فعلاً، لأنها تؤدي إلى سلبيات ونتائج عكسية كثيرة، فينبغي أن نفهم أن اللين في الأسلوب لا يعني اللين في الحق، كوني أتلطف مع شخص فأعرض له حكماً شرعياً، حكم الغناء -مثلاً- يمكن أن أعرضه بأسلوبٍ لين، لكن لا يمكن مطلقاً وليس من الصحيح أن أقول: والله يا أخي! عموماً الغناء فيه أقوال، واختلف بعض العلماء فيه، وإذا كانت الموسيقى هادئة فإن الأمر فيه سعة وهكذا بعض الناس يفهم اللين.
مثلاً التهاون في الأحكام التي تتعلق بمظهر المسلم، أو الموقف من الكفار، تقول: والله لا بأس إذا كان وإذا كان وإذا كان، وتخرج القضية عن الإطار الإسلامي الصحيح.