[حرص السلف على سلامة الصدر]
إنها ليست مسألة سهلة أن يكون الإنسان دائماً سليم الصدر لإخوانه، ليس في قلبه غش ولا حقد ولا حسد على أحدٍ من إخوانه، إنه أمرٌ بالغ الصعوبة، ولكن يحصل بالمجاهدة، فمن وفقه الله له حصل له.
كان الصحابة رضوان الله عليهم يلتمسون إزالة أي شيء يحصل في صدر الأخ على أخيه، لما أتى أبو سفيان على سلمان وصهيب وبلال في نفر قالوا: (والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر مستدركاً -لعله يطيب خاطر الرجل الذي يرجى إسلامه- قال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريشٍ وسيدهم -لعلها عبارة أراد أن يتألف بها قلب الرجل- فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبت إخوانك من أجل هذا المشرك، -قبل إسلامه رضي الله عنه- يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لأن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك، فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه! أغضبتكم؟ قالوا: لا.
ويغفر الله لك) رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.
فهذا يدل على أنه ينبغي على المسلم إذا خشي أن يكون أخوه المسلم قد أخذ عليه في نفسه، أن يسارع لتطييب خاطره والاعتذار إليه، وأن يتأكد بأن صفحة قلب أخيه لا زالت بيضاء، وأنه لم يتصرف تصرفاً يدخل في قلب أخيه شيئاً عليه.
وفي المقابل ينبغي على من اعتذر إليه أن يقبل العذر وأن يسارع إلى تطييب خاطر الآخر، وأن يدعو له بالمغفرة، يغفر الله لك يا أخي، لقد كانت المناشدة بأسلوبٍ غاية في المحبة، يا إخوتاه! أغضبتكم؟ تلك أخلاق الصديق رضي الله تعالى عنه.
وقد قال ابن عباس >-أيضاً- كلماتٍ تدل على صلاح قلبه لإخوانه ولجميع المسلمين، لما شتمه رجل قال له: [إنك لتشتمني وفي ثلاث خصال: إني لآتي على الآية في كتاب الله عز وجل فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم] ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلمه الله القرآن، ففتح الله على ابن عباس أشياء كثيرة في تفسير كتابه، كان ابن عباس يتمنى أن جميع المسلمين يعلمون ما يعلم من تفسير الآية إذا مر بها، ولم يكن يتمنى أن يتفرد بالعلم، ليكون بارزاً بينهم، متميزاً عليهم، وإنما يتمنى أن كل المسلمين يعلمون منها ما يعلم، ثم قال: [وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين -أي القضاة الذين ينظرون في قضايا الناس- يعدل في حكمه فأفرح به، ولعلي لا أقاضي إليه أبدا] أفرح به لأجل مصلحة إخواني المسلمين، لأنه عادل أفرح لوجوده بين المسلمين، ولعلي لا أجد فرصة ولا علاقة لي بهذا الرجل ولا أتوقع أن أعرض قضية لي عليه، ثم قال ابن عباس: [وإني لأسمع أن الغيث قد أصاب بلداً من بلدان المسلمين فأفرح به، ومالي به سائمة] لا غنم ولا زرع في تلك البلد، ولكنني أفرح لأن مطراً أصاب بلداً من بلاد إخواني المسلمين فانتفعوا به، هذه أخلاق ابن عباس.
وأما أبو دجانة رضي الله عنه لما دخل عليه وهو مريض كان وجهه يتهلل، فقيل له: [ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، -والأخرى- وكان قلبي للمسلمين سليماً].
وعن أبي حبيبة عمران بن طلحة قال: [أدخلت على علي رضي الله عنه بعد وقعة الجمل -المعركة التي استشهد فيها طلحة - فرحب به، ثم أدناه، ثم قال لولد طلحة يطيب خاطره بعد مقتل أبيه: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:٤٧]] وهكذا مضى علماء هذه الأمة على هذا الطريق؛ طريق سلامة الصدر للمسلمين، فهذا شيخ الإسلام رحمه الله تعالى كان فيما يجمع من الخصال: سلامة الصدر لإخوانه من أهل العلم، مع أن بعضهم حصل لهم حسدٌ عليه، بل قاموا ضده، بل سعوا في سجنه، وألبوا عليه الحكام، ومع ذلك كان ممسكاً للسانه، وممسكاً لألسنة أصحابه أن تنال أحداً من أهل العلم، فقال في رسالته التي بعثها من السجن، قال لأصحابه خارج السجن، وهو يتوقع أن صدورهم كالغلال على أولئك الذين كانوا سبباً في جعله في ذلك السجن، يقول: تعلمون رضي الله عنكم أني لا أحب أن يؤذى أحدٌ من عموم المسلمين، فضلاً عن أصحابنا بشيء أصلاً، لا ظاهراً ولا باطناً، ولا عندي عتبٌ على أحدٍ منهم ولا لومٌ أصلاً، بل هم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان، كلٌ بحسبه، ولا يخلو الرجل من أن يكون مجتهداً مصيباً، أو مخطئاً، أو مذنباً، فالأول مأجور مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد معفوٌ عنه مغفور له، والثالث المذنب فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين, فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل، لا تتكلموا بأي عبارة، كقول القائل: فلان قصر، فلان ما عمل، فلان أوذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية، فلان كان يتكلم في كيد فلان، ونحو هذه الكلمات التي فيها مذمة لبعض الأصحاب والإخوان، فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال ابن القيم رحمه الله: كان بعض أصحاب ابن تيمية الأكابر يقولون: وددت أني لأصحابي كـ ابن تيمية لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحدٍ من خصومه قط، بل كان يدعو لهم، وجئته يوماً مبشراً بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذىً له، من أصحاب المذاهب، فنهرني وتنكع لي واسترجع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أما أخبرت بموت الرجل، ثم قام من فوره إلى بيت أهله -أي أهل الميت- فعزاهم وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمرٌ تحتاجون فيه إل مساعدة إلى وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له.
وقال ابن مخلوف -وكان من أشد الناس عداوة لـ ابن تيمية رحمه الله، بل أفتى بقتله- كان يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا، ذلك أن الأيام قد دارت وتولى السلطان الناصر وقرب شيخ الإسلام، وأراد أن ينتقم له من أعدائه ممن أمر بسجنهم ولكنه رحمه الله أبى ذلك، وقال: إن قتلتهم من أين تأتي بمثلهم، وهم علماؤك ونحو ذلك من الكلام حتى سكنه.
عباد الله: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب) كلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب) في ذلك الوقت قال هذه الكلمة: (ولكن في التحريش بينهم) فالشيطان هو الذي يئز هذا على هذا، ويريد أن يحقد هذا على هذا، وينفخ في نفس هذا، ويريد أن يمتلئ القلب غيظاً على أخيه، فلنحرص على تجنب عداوة اللعين الذي طرده الله من رحمته وأبعده إلى يوم الدين، ولنعلم أن كل حقدٍ أو حسد مصدره هذا الشيطان، وكذلك لنعلم أن الحقد على المسلم أو الحسد له يعرض الإنسان لرد عمله وحرمانه من الفضل العظيم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرض الأعمال كل إثنين وخميس فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك به شيئاً، إلا امرءاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا) رواه مسلم.
فلذلك المشاحن لأخيه يحرم من المغفرة يوم الإثنين والخميس؛ بسبب الشحناء، وبسببها حرم الناس من معرفة ليلة القدر على التعيين.
كما أن هذا الحقد بين المسلمين سببٌ لسوء الخاتمة، قال عليه الصلاة والسلام (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثٍ، فمن هجره فوق ثلاثٍ فمات دخل النار) رواه أبو داود وهو حديث صحيح.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل قلوبنا سليمة لإخواننا المسلمين، اللهم طهر قلوبنا من كل غلٍ وحقدٍ وحسدٍ وغش، اللهم اجعل قلوبنا تقية نقية، واجعلها سليمة يا رب العالمين، واجعلنا ممن يأتيك يوم القيامة بقلبٍ سليم، واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا إنك رءوف رحيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وتقاربوا وأفسحوا لإخوانكم يفسح الله لكم.