أما المفاضلة بين خديجة وبين فاطمة رضي الله عنها من جهة، وبين عائشة وفاطمة من جهة أخرى، لأنه لا شك أن من جهة الأزواج فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب خديجة ثم عائشة، وهناك من العلماء من فضل خديجة مع عائشة، وبقية نساء النبي صلى الله عليه وسلم سواء في الفضل.
ومن كرامة خديجة عند زوجها عليه الصلاة والسلام أن هالة بنت خويلد أخت خديجة استأذنت مرة على النبي عليه الصلاة والسلام وهي قادمة إلى المدينة، وكانت من المهاجرات، فجاءت إليه عليه الصلاة والسلام وكان في قيلولة، فلما سمع صوتها وهو في القيلولة، ارتاع -فزع- وقال:(هالة! هالة) وفي رواية قال: (اللهم هالة) اللهم اجعلها هالة، هذه التي أتت لتكن هالة، كان راقداً فاستيقظ مرتاعاً، لماذا؟ لأنه بعد هذه السنين الطويلة تذكَّر فجأة صوت زوجته الأولى، لأن الصوت يشبه الصوت، عرف استئذان خديجة من استئذان هالة، لأنها ذكرته باستئذان خديجة لشبه صوتها بصوت أختها، فتذكر خديجة فارتاع وقام من القيلولة فزعاً متغيراً من السرور الذي حصل له من هذه المفاجأة السارة، ومن أحب شيئاً أحب ما يشبهه وما يتعلق به، وهذه معروفة، وقاعدة في نفوس الناس: أن الذي يحب شيئاً يحب كل شيء يشبهه، بل ربما إذا أحب شخصاً أحب كل من اسمه نفس اسم هذا الشخص، وإذا ذكر اسم شخص مشابه للشخص الذي يحبه، نبض قلبه وتسارعت خفقاته مما سمع، فالنبي عليه الصلاة والسلام من شدة حبه لـ خديجة لما استأذنت هالة عرف صوتها، وارتاع، كل ذلك يوقظ في نفس عائشة الغيرة رضي الله تعالى عنها، فقالت:(ما تريد من عجوز حمراء الشدقين هلكت في الزمن الغابر) حمراء الشدقين: لعل المقصود بذلك أن المرأة أو الشخص إذا سقط أسنانه من الشيخوخة، فإنه لا يبقى داخل فمه إلا اللحم الأحمر من اللثة وغيرها، فتقول:(ما تريد من عجوز حمراء الشقين) وهنا لا بد أن نتذكر أن المرأة أو الزوجة تسامح فيما لا يسامح فيه غيرها من شدة الغيرة، فقالت:(ما تريد من عجوز حمراء) لا زلت تذكر خديجة وهي عجوز حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيراً منها، وإن سلمنا أنها خير منها، ففي حسن الصورة وصغر السن ممكن، ولكن في الفضل لا، بل إنه قد ورد في بعض الطرق أنه عليه الصلاة والسلام رد، فجاء عند أحمد والطبراني، قالت عائشة:(أبدلك الله بكبيرة السن حديثة السن، فغضب حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير) غضب عليه الصلاة والسلام من هذا الفعل، والروايات تفسر بعضها بعضاً، وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام قال:(ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر بي الناس) ولكن هذا يدل على أن الغيرة تسامح فيها الزوجة ولا تعاقب لما جبلت عليه النساء، ولذلك لم يعاقب عليه الصلاة والسلام عائشة على هذا الكلام، ولعلها كانت في صغر سنها وأول شبيبتها، فصفح عنها عليه الصلاة والسلام، وكان يدللها كثيراً، وحملتها الغيرة على ذلك، ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم تجاوز عنها.
هذا طرف من سيرة هذه المرأة رضي الله عنها، ولكن أعظم ما فيها الشيء الذي نتذكره كثيراً الفائدة التي حصلت للإسلام من وراء خديجة: نصرة الدين، أي: أهم شيء فعلته خديجة رضي الله عنها نصرة الدين، وعندما يكون الدين في أوله، ويكون المسلمون في خطر عظيم، هم قلة وحولهم أوباش قريش ومن يترصد للمسلمين في أول الأمر، والخشية على الإسلام، يكون الأمر شديداً جداً، فتكون التضحية في هذه المدة بالنفس والمال وتقديم النصرة لله ورسوله:{لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا}[الحديد:١٠] كيف إذا كان في أول نزول الوحي؟! وكيف إذا كانت المسألة لما ساموه عليه الصلاة والسلام سوء العذاب وضيقوا عليه؟! وواسته خديجة وما كان معه شيء واسته خديجة وكانت امرأة غنية فأنفقت مالها عليه وعلى الدعوة وعلى أصحابه أول بيت في الإسلام.
إذاً: أعظم مآثر هذه المرأة حقيقة: نصرتها لدين الله من ذلك القلب المعمور بالإيمان.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرضى عنها، وأن يجزل مثوبتها، وأن يرفع درجتها، وأن يجعلنا ممن يقتفي أثر هذه السيدة الكريمة رضي الله تعالى عنها، وأن يجعل نساءنا ممن يسرن على خطاها، غفر الله لها ورحمها، وصلى الله على نبينا محمد.