أما أحوال الناس في يوم المحشر، فإنهم يخرجون من القبور في أول ذلك اليوم كما قال الله تعالى:{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ}[الانفطار:٤] قلبت فأخرج ما فيها، وقال الله:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ}[يس:٥١] أي: يسرعون، وقال الله:{كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}[المعارج:٤٣] يعني: كأنه وضع لهم شيء أو علامة يسرعون إليها: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ}[القمر:٧]{مُهْطِعِينَ}[القمر:٨] مهطعين أي: مسرعين، في ذل، رءوسهم مرفوعة لا تنظر يميناً ولا شمالاً:{وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء}[إبراهيم:٤٣] لا تعقل من الخوف: {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ}[ق:٤٢] اليوم الذي يخرج فيه الناس من قبورهم {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}[القارعة:٤] في الكثرة والانتشار والضعف والتخبط، وموجان بعضهم في بعض، والذلة والاضطراب والتطاير كتطاير الفراش إلى النار، قال الإشبيلي رحمه الله: فتفكر في بهتك وحيرتك وانكسارك، وذُلِّك، وافتقارك وقلتك يوم لا تجد إلا عملك وسعيك الذي سعيت.
يخرجون من القبور يتبعون الداعي، والداعي: ملكٌ موكلٌ من الله: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً}[طه:١٠٨] ملك يدعوهم إلى الحضور للحساب، يسمعون صوته، فيتبعونه {لا عِوَجَ لَهُ}[طه:١٠٨] أي: لا يحيدون عنه، ولا يميلون لا يميناً، ولا شمالاً {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ}[طه:١٠٨] أي: خفضت وسكنت وسكتت هيبةً لله تعالى، وإجلالاً وخوفاً {فَلا تَسْمَعُ}[طه:١٠٨] أي: في ذلك اليوم صوتاً عالياً، بل لا تسمع إلا همساً أي: صوتاً خفياً، أو صوت الأقدام إلى المحشر، كل هذا كائن، وكل دنيانا ذاهبة، ونحن سنصير إلى ذلك اليوم.
قال الإشبيلي رحمه الله: وتخيل قيام الناس وثورانهم من قبورهم دفعةً واحدةً، وانبعاثهم مرةٍ واحدةٍ، وأنت بينهم وفي جملتهم منكسفاً وجهك، متغيراً لونك، متعثرة قدمك، قد ملئ قلبك فزعاً، وقصم ظهرك ذلك المستمع، وأنت حيران عطشان سكران:{وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}[الحج:٢] شاخص البصر نحو النداء، مستمعاً لذلك الدعاء، ولو وجدت مطاراً لطرت، ومفراً لفررت.
وهكذا يحشرون إلى ربهم، ويقومون من القبور عراةً، وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل عليه السلام.
ويتم الوقوف في ذلك الموقف، وفي أرض المحشر ليس للإنسان إلا موطئ قدميه فقط {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطففين:٦] ليس أحدٌ جالساً، ولا مضجعاً، كل الناس واقفون في ذلك اليوم، كم طوله؟ خمسون ألف سنة، كما قال الله:{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ}[المعارج:١ - ٩] فالسماوات تطوى، وتذوب بعد ذلك ذوباناً تقطر منه، وتتغير ألوانها إلى الحمرة والزرقة والصفرة {وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}[الرحمن:٣٧] متغيرة الألوان، وتذوب وتقطر، وتكون السماء كالمهل {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}[الأنبياء:١٠٤] خمسون ألف سنة كما دل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم في عذاب مانع الزكاة، الذي يمنع زكاة الإبل، تعضه وتطؤه إبله، وغنمه وبقره تنطحه، وتعود كلما انتهت في دورات متوالية، وكذلك الذي يمنع زكاة المال والذهب والفضة، فتصفح صفائح من نار، يطوقه ثعبان أقرع عظيم شديد السم، له قرنان، يلدغه في شفتي شدقيه، يقول: أنا كنزك: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}[المعارج:٤] ثم يرى بعد ذلك سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار.