للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ماذا يفعل الظالم إن كان الحق مما ليس له عوض؟]

ولكن إذا كان لا ينجبر؟ ليس له مثيل كمن قذف شخصاً، أو فعل الفاحشة غصباً أو اغتاب أو نم، فهذه ليست معوضة بقيمة مادية، فعليه أن يندم ويقلع عن الذنب، فالذي اغتاب عليه أن يستغفر للمغتاب، والذي قذف عليه أن يكذب نفسه، والذي زنا بزوجة غيره عليه أن يحسن إلى ذلك الزوج، وإذا اغتابه استغفر له ودعا له بظهر الغيب، ولا يحتاج إلى إخباره؛ لأنه لو أخبره لربما زادت العداوة، والشريعة لا تأمر بهذا، وربما يسكت الذي اغتيب يوم القيامة إذا رأى في صحيفته استغفار الذي اغتابه، فيسكت عن المطالبة بالحق، ولعل ذلك هو السبب الذي قيل من أجله: إن عليه أن يُكثر من الاستغفار لمن اغتابه ولا يخبره -كما قال ابن المبارك: لا تؤذه مرتين- ويدافع عن عرضه في المجالس التي يُهاجم فيها، فكما أنه هاجمه يدافع عنه.

هذا الذي اغتاب، وأما الذي قذف أو زنى بزوجة غيره، فهل يلزمه الاعتراف وطلب التحلل، فالجواب يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فإن كان الاعتراف أصفى للقلوب في قضية القذف اعترف له بأنه قذفه وطلب المسامحة، وإن كانت المسألة ستزيد شراً يكتفي بتكذيب نفسه عند من قذفه من الحاضرين والدعاء للذي قذفه.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: سُئلت مرةً عن رجلٍ تعرض لامرأة غيره فزنى بها، ثم تاب من ذلك، وسأله زوجها وحقق معه، فطلب أن يحلف، فإن حلف على نفي الفعل كانت يمينه غموساً، وإن لم يحلف قويت التهمة، وإن أقر جرى عليه ما يجري عند القاضي، وجرى من الشر أمرٌ عظيم، قال: فأفتيته أن يضم إلى التوبة فيما بينه وبين الله تعالى الإحسان إلى الزوج بالدعاء والاستغفار أو الصدقة عنه ونحو ذلك مما يكون ذاباً إيذاءه له في أهله، فإن الزنا له تعلق بحق الله تعالى وحق زوجها، وليس هو مما ينجبر بالمثل كالدماء والأموال، بل هو من جنس القذف، والفقيه الذي يجمع النفوس لا يفرقها.

فعند ذلك إذا لم يعلم الزوج فعليه أن يتوب التوبة العظيمة بينه وبين الله مع الإحسان إلى من ظلمه، وإذا علم طلب منه أن يحلله، وأما الذي يغصب فإنه يرد المغصوب، فإن مات صاحب المال، رده إلى ورثته، ولكن يبقى شيء، وهو حق صاحب المال في الانتفاع به في المدة التي غصب فيها المال، فماذا يفعل؟ فإنه يحسن إلى ذلك الرجل بالدعاء له والصدقة عنه ونحو ذلك؛ لعل هذا الرجل إذا جاء يوم القيامة ورأى في صحيفته استغفاراً وأجراً من الذي غصبه المال يسكت عن المطالبة بحقه، ولا يقول: رب ظلمني بأخذ مالي، وحرمني من الانتفاع منه في بقية عمري؛ أداه إلى ورثتي لكنه حرمني من الانتفاع به بقية عمري، فلعله يسكت إذا رأى في صحيفته استغفاراً وحسناتٍ من الذي ظلمه، هذا شيءٌ مما يتعلق بأحكام تحلل الظالم من المظلوم، نسأل الله تعالى أن يعافينا.

اللهم عافنا من الظلم، وباعد بيننا وبين الظلم يا رب العالمين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأفسحوا لإخوانكم يفسح الله لكم.