[الغلو في الرجال]
من أسباب رفض الحق: الغلو في الرجال، وعدم إنزالهم المنزلة التي أنزلهم الله إياها، أو رفعهم فوق المنزلة التي أنزلهم الله إياها.
والغلو في الرجال من الأمور المنتشرة كثيراً في هذا العصر حتى بين المستقيمين، وبين كثير من الدعاة إلى الله، وطالب الحق لا يهوله اسم معظم كائناً من كان، وليس لهول الرجل يتبع، لا.
وهنا قاعدة ذهبية ذكرها علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [إن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق]، فالحق هو الذي يبين ويقوم، وليس الرجال هم الذين يقومون الحق، فإن الحق موجود، ولكن الحق دليل على صحة الرجال أو خطئهم، فهو المعيار والميزان الذي توزن به الأمور.
وقد يزداد الأمر سوءاً حتى يصل إلى درجة ما أخبر به الرسول صلى الله وعليه وسلم كما في الصحيحين عن حذيفة مرفوعاً: (حتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه حبة خردل من إيمان) يصل الأمر بالغلو إلى درجة أن يقال عن الرجل ما ذكر وليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فانظر إلى الموازين عندما تتهدم كيف يقول الناس عن الرجال؟ وهذا المدح الذي يقوله الكثيرون إنما هو من الغلو، ولذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن مدح الرجل في وجهه حتى لايغتر، ومع ذلك فإن ديدن الكثيرين هو إطلاق ألقاب المدح جزافاً على شخصيات ليس في قلبها من الإيمان حبة خردل.
والتعظيم حتى لو كان للصالحين -وتعظيم الصالحين من الآفات الكبيرة- واكتشاف الأمر أصعب؛ لأن عندهم أشياء قد يخدع بها الكثيرون، صلاة، وعبادة، وزهد، وتقوى ظاهرة.
فهذا الأمر يصل إلى التعظيم وادعاء العصمة لهم، ورفعهم فوق مستوى البشرية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:٣١].
ولذلك يصل الأمر ببعض الغلاة من أصحاب الطرق أنه يسجد لشيخه، وربما يحلق رأسه للشيخ تقرباً له وتعظيماً، الحجاج يحلقون رءوسهم تعظيماً لله، ويزيلون هذا الشعر بالموسى تعظيماً لله، وهؤلاء يعظمون مشايخ الطرق بأن يحلقوا رءوسهم من أجلهم، وتقول لبعضهم: إن الحديث الذي تقوله ضعيف.
يقول: لقد رواه الشيخ.
تقول له: إن هذا الرأي الذي تقول به مخالف للدليل.
يقول: إن الشيخ قد قال به.
فهذا التعظيم الموجود للشخصيات سبب كبير من أسباب الانحراف، وقد خط لنا السلف رحمهم الله في هذا الأمر منهجاً، فـ ابن عباس رضي الله عنه لما سئل عن مسألة، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: له إن أبا بكر يقول كذا، وعمر يقول كذا، قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر.
وكثير من المعظَّمين اليوم والمتبعين، كثير منهم بل كلهم لا يمكن أن يقارنوا بـ أبي بكر وعمر، ومع ذلك يحتج بأقوالهم على الدليل، وتقدم أقوالهم على الحق من القرآن والسنة، لا أقصد تقديم فهم فلان على فهم فلان للدليل، فهذه قضية تتعلق بالفقه، لكن أن رجلاً ليس مستنداً في كلامه إلى أي دليل، يقدم رأيه على الدليل الصحيح الصريح، فضلال عظيم أن يصل الأمر إلى هذا المستوى.
سئل الإمام أحمد مرة -وهذا مثال لا أعنيه لذاته ولما يتضمنه، وإنما أعنيه لما فيه من الدرس العام الذي يؤخذ منه- سئل الإمام أحمد عن كتابة الرأي، قال: لا أراه.
لم ير ذلك، فقيل له: إن ابن المبارك، قد كتبه، فقال: الإمام أحمد: ابن المبارك لم ينزل من السماء.
وابن المبارك هو من هو في جلالة قدره، وعلو كعبه في العلم، والزهد والعبادة والتقوى لله عز وجل، ومع ذلك يقول الإمام أحمد: ابن المبارك لم ينزل من السماء، وقال المروزي للإمام أحمد رحمه الله: ما تقول في النكاح؟ فقال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له المروزي: فقد قال إبراهيم كذا، قال: فصاح بي، وقال: جئتنا ببنيات الطريق، أي: تريد أن تهلكنا؟ ولذلك لما استقر عند السلف هذا الأمر ما هالهم عظمة فلان، وعبادة فلان، وزهد فلان، وورع فلان، إذا كان الذي أتى به فلان هذا مخالفاً للحق، فزهده، وورعه، وتقواه لنفسه، ونحن عندما نتبع، إنما نتبع بالدليل وبالبينة، ولذلك قيل للإمام أحمد: إن سرياً السقطي قال: لما خلق الله تعالى الحروف، وقفت الألف وسجدت الباء، فقال: نفروا الناس عنه، ولم يهمه سري السقطي من هو، ولا ما هي العبادة والزهد والورع، وما هو مقيم عليه، فله شأنه الخاص به، ولنا علمه الذي يقول به، نزنه بالحق: نفروا الناس عنه، لأنه قال كلاماً بغير دليل، فالكلام الذي قاله الإمام أحمد صحيح، وهذا هراء.
وليس لأي واحد أن يقول: نفروا الناس عن فلان، فلا بد أن يأتي بالبينة والدليل لماذا ننفر الناس عن فلان؛ أما نفروا الناس عن فلان لهوى، أو لخلاف شخصي، أو لأطماع معينة، فهذه قضية خطيرة، فلا إفراط ولا تفريط، ولا مجاوزة للحد من أحد الجانبين، والحق دائماً وسط بين طرفين، وطريق بين باطلين في كثير من الأمور.
وقد وقر في نفوس كثير من الناس تعظيم أقوام، فإذا نقل عنهم شيء فسمعه الجاهل بالشرع قبله؛ لتعظيم القائل في نفسه، يقول أحد أهل العلم: اسمع مني بلا محابة، ولا تحتجن علي بأسماء الرجال، فتقول: قال فلان وقال فلان، فإن من احتج بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أقوى حجة، على أن لأفعال أولئك وجوهاً نحملها عليها بحسن الظن، أي: لا يعني أن نكره المخطئين على جلالة قدرهم أو ننبذهم، ونشتمهم ونسبهم لأنهم قالوا خلاف الحق، بل نلتمس لهم أعذاراً ونحسن الظن، نقول: لعل الشيخ فلان، أو الإمام الفلاني لم يطلع على الدليل، أو على وجه تضعيف الحديث، أو لعله توهم بالاستدلال أمراً معيناً ليس كذلك، وهذه أشياء بينها أهل العلم، لا كل جاهل يقول: والله لعل الإمام أحمد ما عرف الدليل، لعل أبا حنيفة ما فهم، فهذا الكلام يتبين بمناقشة أهل العلم لبعضهم، والله أخذ عليهم العهد: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: ١٨٧].
المشكلة في عهد العلماء السالفين من الأمة في اتباع وتعظيم أناس من المذاهب الضالة، سواء كانوا جهمية أو معتزلة، أو مرجئة، أو طرقية صوفية من أصحاب الوحدة أو الحلول والاتحاد -وحدة الوجود واتحاد الخالق والمخلوق- كانت المشكلة عندهم في زعماء الضلال، والآن تغيرت كثير من الأسماء، وصارت المشكلة في شخصيات نشأت في هذا العصر، وأصبحت أصناماً تعبد وتقدس من دون الله، فالفكرة نفسها موجودة في السابق، لكن تغيرت الشخصيات، ونشأت بعض المذاهب الهدامة وبرزت إلى الوجود، وعلى السطح، وشهودت في الساحة، وأصبح لها دعاة وأناس يتبنونها وينشرونها، ويسهرون ليلاً ونهاراً لإذكاء نار فتنتها، فيجب على أهل الوعي من المسلمين الوقوف أمام هؤلاء، والبيان للناس: ما هو الميزان وكيف نقوم الأشخاص؟ ومن المؤسف أن تجد أقواماً يسخرون من جمود قوم نوح، وهم عاكفون على أقوال كبرائهم، وفتاوى عظمائهم، لا يرون جواز الخروج عنها، يقول: أخرج عن رأي فلان من أنا ومن فلان؟ فلان له كذا وكذا من المآثر، أنا لا أفهم أكثر منه، ولو أتيته بالدليل وبكلام أهل العلم الآخرين، فلا يمكن يغير، ومن البلاء أن يؤتي الله الإنسان سمعاً وبصراً وفؤاداً، ثم يفكر بعقل غيره، ولا يبصر إلا ما رآه غيره، ولا يسمع إلا ما قاله غيره، ولا يؤمن إلا بما تكلم به غيره.
إذاً فما فائدة السمع والبصر والفؤاد؟