ثامناً: لا بد أن تكون العلاقة قائمة على التدرج
ولهذا أمور كثيرة: فمنها: ألا يطالب الداعية المدعو فوراً بطلب العلم، وبالمنهجية فيه، أو بحفظ النصوص، وهو إلى الآن (خام) لم يتعود بعد على مثل هذه الأشياء، أو أن يطالبه بالارتقاء إلى مستويات عالية في الأمور الإيمانية، فيطالبه بقيام الليل وبصيام النافلة، وهكذا، والمدعو بعد لم يتعود على القيام بالفرائض، ولم تستقر نفسه وترسخ قدمه في سبيل الإسلام أو فرائض الإسلام الأساسية، فيكون مطالبته بهذه الأمور من النافلة شاقاً عليه منافياً للتدرج، وقد يفعل ذلك فترة ثم يترك الفرض والنفل.
ومن الأمور كذلك: عدم تكليف المدعو بأن يشتغل مباشرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو أن يحوله إلى داعية بطريقة قسرية، أو يدفعه دفعاً في قفزة محطمة لمثل هذه الأعمال الكبيرة التي تحتاج إلى تهيئة وتدريب ومراس ومران وهكذا.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا) وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن تبدل أحكام الإسلام لتريح الذي يستمع إليك من المدعوين، لكن أن تعلم أن هذا الدين متين، فتراعي حسن المدخل على المدعو، وأن تختار أيسر الأمرين ما لم يكن إثماً.
ومن التدرج مع المدعو: مخاطبته على قدر عقله، فإن على الداعية أن يخاطب المدعو من حيث انتهى علم هذا المدعو لا من حيث انتهى علم الداعية، من حيث انتهى فهم المدعو لا من حيث انتهى فهم الداعية.
فإن بعض الدعاة قد يتخيل أو يتصور أن المدعو الآن لا بد أن يفهم مثلما يفهم هو، ويستوعب مثلما يستوعب هو، وأنه سريع الاستنباط، وسريع الوصول إلى الأمر وفهم القضية مثله، وليس الناس بمستويات متشابهة أو متقاربة، ولذلك يقول علي رضي الله عنه كما روى عنه البخاري في صحيحه: [حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله].
ولذلك من الفوائد التي يرشد إليها كلام علي رضي الله عنه أيضاً من باب التدرج: تأليف قلب المدعو ربما يعرف من الإسلام أولاً، وعدم مخاطبته بغرائب العلم، والأشياء التي لا يطيق فهمه استيعابها، أو لا يطيق عقله فهمها.
قال ابن مسعود: [ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان فتنة لبعضهم] وقد ضرب سلفنا رحمهم الله مثلاً عظيماً في هذا.
قال الشافعي: لو أن محمد بن الحسن كان يكلمنا على قدر عقولنا، ومحمد بن الحسن عالم عظيم من العلماء وفقيه، وعقله جبار، عقله طاقة هائلة، وهو من شيوخ الشافعي.
قال الشافعي: لو أن محمد بن الحسن كان يكلمنا على قدر عقله ما فهمنا شيئاً، ولكنه كان يكلمنا على قدر عقولنا فنفهمه.
وهذا التبسيط في الأمور وحسن العرض من الحكمة في الدعوة، وقال النضر بن شميل: سئل الخليل عن مسألة - الخليل معروف من كبار علماء اللغة والقرآن والسنة أيضاً- فأبطأ في الجواب فيها، فقلت ما في هذه المسألة، وما كل هذا النظر، قال الخليل رحمه الله: فرغت من المسألة وجوابها، ولكني أريد أن أجيبك جواباً يكون أسرع إلى فهمك، يقول: أنا الآن لا أفكر في الجواب، الجواب انتهى عندي من زمان، لكني أفكر في الطريقة السهلة الميسورة التي إذا عرضتها عليك فهمت الأمر.