ثم دونت السنة، والعلم والفقه، وكان لهذه الكتب التي دون فيها العلم بالأقلام، كان لها في نفوس علمائنا أثراً عجيباً ومكانة عظيمة.
قال أصحاب ابن المبارك له: ما لك لا تجالسنا؟ فقال ابن المبارك: أنا أذهب فأجالس الصحابة والتابعين، وأشار بذلك أنه ينظر في كتبه، وكان الزهري رحمه الله قد جمع من الكتب شيئاً عظيماً، وكان يلازمها ملازمة شديدة، حتى إن زوجته قالت: والله إن هذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر.
وكان العلماء يحسبون عند تفصيل ثيابهم حساب الكتب، فهذا أبو داود رحمه الله، كان له كُم واسع -وكان الكُم يستخدم كالجيب- وكُم ضيق، فقيل له في ذلك فقال: الواسع للكتب والآخر لا يحتاج إليه، وكان منهم من إذا أصابه مرض من صداع أو حمى، كان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة قرأ فيه، فإذا غلب عليه الصداع ترك الكتاب، فدخل عليه الطبيب يوماً، وهو على هذه الحال يأخذ الكتاب متى استطاع أن يقرأ ويدعه إذا غلبه الصداع، فلامه على ذلك.
وكان سلفنا وعلماؤنا رحمهم الله يقرءون في الكتب على كل أحيانهم، فكان الخطيب البغدادي يمشي وفي يده جزء يطالعه، وكانوا يقرءون عند الاضطجاع، وينفلت الكتاب من يد أحدهم مرة أو مرتين أو أكثر فيعود إليه، فيأخذه، يسقط من النعاس ويعود إليه فيأخذه، وكان البخاري رحمه الله يقدم له الطعام، طعام الإفطار مثلاً وهو يقرأ ثم تأخذه الخادمة بعد فترة، فتأخذ الطعام ولم يمسه، لم ينتبه أصلاً أن الطعام قد جاء، ثم يأتي وقت الغداء، فيوضع له الطعام وهو يقرأ، وتأتي بعد فترة فتأخذ الطعام ولم يمسه؛ لأنه لم يدر أن الطعام وضع ولا أنه، وبعضهم كان يجلس يقرأ في الظل فينحسر عنه، وتأتي عليه الشمس وهو لا ينتبه.
قال ابن الجوزي رحمه الله: وإني أخبرك عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتاباً لم أره فكأني وقعت على كنز، فلو قلت: إني قد طالعت عشرين ألف مجلد لكان أكثر، وأنا بعد في طلب الكتب، فاستفدت بالنظر فيها ملاحظة سير القوم وقدر هممهم، وحفظهم، وعاداتهم وغرائب علوم لا يعرفها من لم يطالع.
أرسل أحد الخلفاء في طلب أحد العلماء، ليأتيه فاعتذر إليه، بأن عنده قوماً من الحكماء يحادثهم، ثم عرف الخليفة أنه لم يكن عنده أحد، فعاتبه وسأله: من الذي كان عندك؟ فقال:
لنا جلساء ما نمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهدا
يفيدنونا من علمهم علم ما مضى ورأياً وتأديباً ومجداً وسؤددا
فلا غيبة نخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا