من ضمن الأشياء المنافية للرفق أيضاً: أن يكثر ملازمة المدعو جداً بحيث يضيق منه ولا يطيق الجلوس معه، ويريد مفارقته، الآن صار مثل هذه اللاصقة التي لا تنفك وهو يريد الفكة لأنه قد طفح به الكيل من كثرة هذه الملازمة وكتم الأنفاس.
وكذلك فإن من الأمور التي تنافي الرفق في علاقة الداعية بالمدعو: الاشتداد في الإنكار عليه والإغلاظ له إذا عمل معصية، بحيث ينفر هذا المدعو منه، وهذه قصة لطيفة تبين ذلك: قال حماد بن سلمة: إن صلة بن أشيم رحمه الله مر عليه رجل قد أسبل إزاره، وهذا صلة بن أشيم كان له تلاميذ وأصحاب، فهم أصحابه أن يأخذوه بشدة، فقال: دعوني أنا أكفيكم، فقال صلة للرجل: يا بن أخي إن لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك يا عم؟ انظر الشيخ الكبير يقول للرجل: يا بن أخي لي إليك حاجة، أنا أريد منك حاجة، خدمة، قال: وما حاجتك يا عم؟ قال: أحب أن ترفع إزارك، قال: نعم وكرامة.
فرفع إزاره، فقال صلة لأصحابه: لو تركتموه أو قرعتموه لقال لا ولا كرامة وشتمكم.
فالأسلوب الحسن يأتي بالمردود الحسن، وهذا مثل آخر: خرج محمد بن عبد الله بن عائش رحمه الله ليلة من المسجد يريد منزله، وإذا في طريقة غلام من قريش سكران قد قبض على امرأة فجذبها فاستغاثت فاجتمع الناس عليه يضربوه وهو سكران لا يحس، فقال للناس: تنحوا عنه، ثم أخذه فقال: امض معي، فمضى معه حتى صار إلى منزله، فأدخله، فقال لبعض غلمانه: بيته عندك، فإذا أفاق من سكره فأعلمه بما كان منه، ما فعل في الشارع أمام الناس ولا تتركه ينصرف حتى تأتيني به، فلما أفاق الرجل من سكره ذكر الغلام له ذلك، فاستحيا استحياءً شديداً وهمَّ بالانصراف فقال الغلام: قد أمر أن أدخلك عليه، فقال له ابن عائش لما دخل عليه: أما استحييت لنفسك، أما استحييت لشرفك، أما استحييت من ولدك، فاتق الله وانزع عما أنت فيه، فبكى الغلام منكساً رأسه، ثم رفع رأسه وقال: عاهدت الله عهداً يسألني عنه يوم القيامة، أني لا أعود إلى الشراب ولا لشيء مما كنت فيه، وأنا تائب، فقال: أحسنت يا بني، فكان الغلام بعد ذلك يلزمه ويكتب عنه الحديث.
ومن الأمور المنافية للرفق في الدعوة: أن ينسى بعض الدعاة أنه داعية في بعض المواقف، فيخطئ المدعو ويعنفه، فلنفرض مثلاً أنه ذهب معه في نشاط ترويحي، لنفترض أنه مثلاً في لعب كرة، من باب التداخل والتجديد والترويح، فنسي الداعية نفسه أثناء اللعب، وكلما أخطأ هذا المدعو في نقل الكرات نزل عليه بالتعنيف وباللوم الشديد ونسي واجبه الدعوي، وصار همه الآن فقط في الكرات ونقلها والتسديدات والإصابات ونحو ذلك، فهذا من الأخطاء الشائعة.
وكذلك ما يحدث من بعض الدعاة من جدل عقيم في أمر دنيوي ينزل إلى مستوى المدعو، وقد يتجادل معه أي السيارتين أحسن، وأي السلعتين أجود، وهذه ليست من الدين في شيء، وينسى أنه داعية، وفي الأمور الدنيوية يتصرف مع المدعو كعامة الناس وربما جهل ونسي، ولا يتذكر أنه داعية إلا إذا طرح موضوعاً شرعياً فيه قال الله وقال رسول الله، فهذا من الانفصام النكد بين الحالتين، ولا يصلح ذلك في تصرف داعية مع مدعو.
ومما ينافي الرفق أيضاً: أن يطبق الداعية مع المدعو ما حصل معه هو شخصياً في مبدأ أمره، وقد لا يكون ذلك مناسباً للمدعو أبداً، فلنفرض أن داعية وفق برجل انتشله انتشالاً عميقاً وأحسن إليه إحساناً عظيماً ونفعه نفعاً كبيراً، وسهل له الأمور في طلب العلم والدعوة والتخلص من منكرات كثيرة، ونصحه بنصائح، فالآن هذا الداعية يريد أن هذا المدعو يقفز مثلما قفز هو، وقد لا تلائم الظروف، قد تختلف الشخصيات ويختلف الأشخاص الذين نقلوا، والذين دعوا في الأصل، والفرق بين الداعية الأول والداعية الثاني قد يكون أكبر مما يفعله هذا الداعية الجديد مع المدعو.
فلا بد من مراعاة هذه الأمور، وما كان سهلاً بالنسبة لك قد يكون شاقاً بالنسبة له، فلا تحمله ما لا يطيق.
ومن الرفق كذلك: تشجيعه في العمل وتكليفه بالأمر اليسير حتى إذا نجح فيه شعر بحماس، وشعر هذا فعلاً بقيمة العمل، وأنه أنتج وأثمر فتشجع على مزيد من السؤال.